تُظهر تداعيات ما بعد الاستفتاء على انفصال إقليم كردستان، كيف يمكن لقرار غير محسوب، أو بالأحرى محسوب فقط وفقا لحسابات شخصية وعائلية وحزبية، أن تكون له أفدح العواقب على مستقبل شعب بأسره، بل وأن يفضي بقضيته الوطنية للتراجع خطوات واسعة للوراء، بعد أن رُوّج لقرار الاستفتاء على أنه الخطوة النهائية التي تسبق إعلان الاستقلال التام.
قلنا هذا الكلام في مؤتمر "الديمقراطية وتقرير المصير" الذي شاركنا فيه في السليمانية قبل أيام فقط من موعد إجراء الاستفتاء، وحذرنا من مغبة "موجة ركوب الرأس" التي اجتاحت قيادة أربيل وشخص مسعود
البارزاني.
وكتبنا غداة الاستفتاء، محذرين من سيناريو "نجاح الاستفتاء وفشل تقرير المصير" ..
أعمق مخاوفنا وتحذيراتنا، تجسدت خلال الأيام القليلة الفائتة في سلسلة الانتكاسات التي منيت بها الحركة الوطنية الكردية، والمشروع الانفصالي الكردي.
إن كان ثمة من مسؤول تتعين مساءلته ومحاسبته على ما آلت إليه أوضاع الإقليم، فهو مسعود البارزاني شخصيا، فهو المسؤول عن دفع الكرد إلى مواجهة غير محسوبة، مع
العراق ودول الإقليم والمجتمع الدولي.. وهو المسؤول عن تفاقم الانقسامات واندلاع حرب الاتهامات داخل الإقليم ذاته، التي يتخوف كثيرون من أن تفضي إلى عودة المواجهات المسلحة بين المكونات الكردية.
في السليمانية، ذكّرنا بما حدث في أواسط تسعينيات القرن الماضي، عندما لجأ البارزاني إلى بغداد مستنجدا بصدام حسين لاستنقاذه من زحف الاتحاد الوطني برئاسة "مام جلال" صوب أربيل.
يومها عُدّت خطوة البارزاني بمثابة خيانة للطموحات القومية لكرد العراق..
اليوم، تبادر أوساط أربيل لاتهام ورثة
الطالباني، بفعل الأمر ذاته، إذ تتهمتها بتدبير صفقة "مريبة" مع بغداد، سلمت بموجبها كركوك ومناطق أخرى متنازع عليها، على طبق من فضة، للقوات الأمنية العراقية المشتركة.
أيا يكن من أمر، فقد تلقت الطموحات القومية الكردية في العراق، بل وفي الإقليم، صفعة قاسية جراء عناد رئيس الإقليم وإدارته الظهر لكل النصائح والمبادرات والوساطات.
وعليه اليوم، أن يتوفر على قدر من الشجاعة والجرأة لإعلان ذلك والاعتراف به ودفع ثمنه، وهو الرئيس المنتهية ولايته، لكي يفسح المجال أمام محاولات إعادة تطبيع العلاقات الكردية مع العرب والعراقيين والمركز.
عليه أن يفعل ذلك دون تردد أو إبطاء، بدل التلهي بالبحث عن أسباب ومشاجب يعلق عليها أوزار القرارات الارتجالية الطائشة التي اتخذها في لحظة نشوة باقتراب لحظة تجديد الزعامة وتفعيل مسلسل التمديد والتجديد والتوريث، غير المقدس.
لقد عاد المشروع الكردي سنوات عديدة إلى الوراء، فالكرد انسحبوا من المناطق المتنازع عليها كافة، التي فرضوا عليها سيطرة كاملة على طريقة "وضع اليد".
معابرهم الدولية مغلقة ويجري تسليمها تباعا للحكومة المركزية، مطاراتهم لن تفتح إلا تحت إشراف الحكومة المركزية وبإرادتها.. اتصالاتها ومواصلتهم باتت تخضع لممر إجباري واحد هو بغداد.. نفطهم ونفط العراق، بات "مؤمما"، ويخضع لإدارة وإشراف الحكومة المركزية التي تتولى استقبال عائداته.
مثل هذه الأوضاع، لا تعد تراجعا إلى مرحلة ما قبل داعش، بل إلى مرحلة ما قبل 2003.
بعض اللاعبين الكرد، ومن خلفهم بعض داعميهم الإقليميين والدوليين، ظنوا أنهم بتسريع وتائر الانفصال عن العراق، إنما يوجهون ضربة قاصمة ومزدوجة، تستهدف إيران أولا، وتركيا ثانيا، وتضعف بغداد التي تتحكم بعملية صنع القرار فيها، أحزاب وشخصيات محسوبة على إيران ومقربة منها ثالثا.
لكن ما حصل، أن إيران نجحت في رد الصاع صاعين، فهي أمنت لحلفائها في بغداد، بالسياسة والميدان، ما عجزوا عن تحقيقه، بل وما لم يحلموا بتحقيقه..
زحف القوات العراقية والحشد الشعبي صوب كركوك، أشعر الأكراد بان حرباً ضروس تنتظرهم.. قدوم قاسم سليماني إلى أربيل، ضمن كسب "نصف" المكونات الكردية، وإبعادها عن سيطرة أربيل.
لم يعد الكرد رأس حربة في ظهر إيران، بل لقد قصمت الحربة الإيرانية ظهر المشروع الاستقلال الكردي، وألحقت طعنة نجلاء بطموحات من كانوا يراهنون على فرصة الدخول إلى إيران من البوابة الكردية.
ربما تشكل مآلات الاستفتاء وتداعياته، صورة لطبيعة المعارك التي ستخوضها إدارة ترامب ضد إيران، والكيفية التي ستحسم بها هذه المعارك..
ولعل التزامن بين هزيمة المشروع الكردي، يعني من ضمن ما يعني، أن إدارة ترامب خسرت أولى معاركها مع إيران قبل أن تخوضها، وربما يعطي ذلك كله، مؤشرا على النتائج الفعلية المحتملة لاستراتيجية ترامب الجديدة حيال إيران.
(عن صحيفة الدستور الأردنية)