يحتفل الثائرون في كل الدنيا في أكتوبر من كل عام بذكرى الموت الخاطف للرمز الأسطوري الملهم ارنستو تشى جيفارا(9/10/1967) الذي يمثل في وعيهم نموذج المناضل الإنساني من أجل العدل والحرية. صورته وإطلالة وجهه بالبيرية المائل، ولحيته المهذبة، وتلك الابتسامة الحنونة الفياضة بالأمل والوعد، وهي الصفات التي تجذب أي كاميرا أو أي رسام.
غير ذلك كان الرجل أصلا سواء في حياته وموته بهما تفاصيل درامية مليئة بألف لون ولون من شجن الإنسان في كل وقت وحين. من منا لا يذكر أغنية الشيخ إمام ونجم (جيفارا مات) لم يمت جيفارا. الفكرة والمبدأ والمعنى لازالت صورة جيفارا تملأ الدنيا على تي شيرتات الشباب وميدالياتهم، وعلى جدران حجراتهم، رمزا لا يغيب للرفض الأبي والتمرد الإنساني النبيل على الظلم والاستعباد، فالرجل بالفعل من الذين أبدعوا للحرية الإنسانية تاريخها.
فإذا كانت هذه هي مكانة جيفارا عند كل الأحرار والثوار والرافضين للظلم والاستكبار، فماذا تكون مكانة جمال الدين الأفغاني (1838 – 1897م) صاحب السيرة العاصفة في إعلان شموخ الإنسان ورفعته وكرامته، وصاحب الاتساع والتكامل والعمق الفكري والعلمي (وهى الصفة التي لم تكن لجيفارا رغم كونه طبيبا)، وصاحب اللغات الثمان (الانجليزية، والفرنسية، والعربية، والهندية، والفارسية، والروسية، والأفغانية، والألمانية)، والمؤسس الحقيقي والأب الشرعي لكل حركات الإصلاح في الشرق كله. حين تتحدث عن سيرة الأفغاني كأهم رمز إصلاحي وأيضا ثوري في العصر الحديث فأنت تتحدث، حقيقة، عن تاريخ شخص في تاريخ أمة، وتاريخ أمة خلال سيرة الشخص الذي ساهم في إيقاظ تلك الأمة.
وهنا سؤالي ومن حقي أتسأل لماذا لم تأخذ شخصية الأفغاني مكانها الطبيعي في نفوس وعقول ووجدان شبابنا كما جيفارا؟ رغم كاريزماه الساحرة التي تتبدى في صورته شديدة الجاذبية والتأثير بعمامته المائلة فوق شعره الغزير الذي ينساب من تحتها في حرية وتمرد تماثلان صاحبه ولحيته الوقورة الزاهدة.
المتأمل في صورة الأفغاني يجدها(كاميرا جيفت) بأضعاف ما لجيفارا من جاذبية، ومع ذلك لم نر صورة واحدة للأفغاني ولو لمرة واحدة على تي شيرت أو برواز معلق على جدار أو في ميدالية بين أيدي الشباب. لا شك أن أصدقاءنا اليساريين وهم شديدي البراعة في توظيف الفن والثقافة لخدمة الفكرة والايدولوجيا، لا شك أنهم برعوا تماما في غرس (حالة جيفارا) في وجدان الشباب الثائر الطامح إلى تغيير العالم من حوله، ولم تجد (حالة الأفغاني) من يستطيع الفعل نفسه، فاليساريون بالطبع لا يميلون إليه كثيرا بانطلاقاته الإسلامية الواسعة البالغة التأثير، والليبراليون لا يحبون هذا المثال لا فكريا ولا اجتماعيا، رغم أن الزعيم الليبرالي الكبير سعد زغلول كان تلميذه وتلميذ صاحبه القريب (الشيخ محمد عبده) وزغلول وهو من أطلق عليه وصف (موقظ الشرق)، والقوميون رغم إقراراهم بأستاذيته ينظرون إلى قوميته من طرف خفي كونه غير عربي. لم يبق إذا إلا الإسلاميون أصحاب الدعوة الإنسانية الشاملة لتحرير الإنسان من كل قيد وأسر كما جاء الوحي وقالت الرسالة ونبي الرسالة صلى الله عليه وسلم، ناهيك عن كونه الأب الروحي والمؤسس التاريخي لأفكار وحركات الإصلاح الإسلامي، ومع ذلك لم يهتم الإسلاميون بحالة الأفغاني كطودا شامخا ونموذجا كاملا للثورة الإنسانية على الظلم والاستكبار.
أفما كان يجدر بشباب الإسلاميين أن يشتغلوا على هذا الشخصية التاريخية ويجعلوا منها رمزا للحرية والإباء، والبطولة، والحركة الدؤوبة، والنضال والتضحية، والشهادة والثورة الهادرة على الظلم والاستبداد، لماذا لا نرى صورة الأفغاني بمقل ما نرى صورة جيفارا على تي شيرتات الشباب وميداليتهم وجدران حجراتهم وعلى صفحات الفيس والتويتر والمجموعات، ونقدمه للعالم كله نموذجا للفكرة التي ناضلت وثارت من أجل الإنسان وتقديم الإسلام وفكره ومثله العليا لهذا الإنسان.
لقد خرج الأفغاني فكريا ومعرفيا وثوريا من رحم السعي الإنساني الدائم للحرية في مرحلة تاريخية ضخمة تميزت بازدهار الأفكار حول الإنسان وحريته وحياته ومصيره، فانطلق محلقا في سماء الشرق مفكرا إنسانيا، ومصلحا اجتماعيا، وعالما دينيا، وخطيبا، وكاتبا، وفيلسوفا يتمتع بأقصى ما قدر للبشر غير الأنبياء من قوة الذهن، وسعة العقل، ونفاذ البصيرة، هذا فضلا عن شخصيته ذاتها، هكذا وصفه صاحبه الأثير الشيخ الإمام محمد عبده.
يخرج من بلاده إلى الهند فيصدمه خضوعهم العجيب للإنجليز فيقول لهم (أنتم ملايين من البشر ولو كنتم ملايين من الذباب لكاد طنينكم يصم آذان بريطانيا).
ثم يذهب إلى مصر فيقول للفلاح المصري البائس دائما (عجيب لك أيها الفلاح تشق الأرض بفأسك باحثا عن رزقك، لماذا لا تشق بهذه الفأس صدور ظالميك؟) ثم يعود إلى الهند فيؤلف كتابه الشهير (الرد على الدهريين) ناقدا لنظرية دارون في التطور والنشوء والارتقاء، وتبيان لدور الدين في (تأكيد قيمة الإنسان كأشرف مخلوقات الأرض والساعي للارتقاء بالحياة على الأرض إلى أعلى المستويات اللائقة بخير الأحياء) ثم يخرج من الهند إلى أوروبا ليلتقيه محمد عبده فيؤسسان تنظيما سريا (العروة الوثقى)، ويذكر الباحثون أن هذا التنظيم كان هو النموذج الملهم لكثير من الحركات الثورية والإصلاحية. ويشد عصا الترحال إلى روسيا القيصرية وعينه على مسلميها في وسط آسيا، ويمكث فيها ثلاث سنوات (1886-1889) حتى يبعده القيصر، فيذهب إلى إيران فيمكث بها قدر ما يمكث ثم يقيد بالسلاسل ويوضع في ثياب مهلهلة ويطرد إلى البصرة، فيكرمه واليها (هدايت باشا) ويتوسط في إرساله إلى لندن للعلاج وأخيرا ينتهي به المطاف في استانبول بعد أن أرسل إلى السلطان (ميثاق الرقى والتعاون) يقر فيه السلطان بدعوة الأمم العربية إلى مد يد الإخاء بعضها إلى بعض لتنهض بالصناعة والعلوم في ظل الاستقلال القومي والاتحاد الإسلامي، وكاد أن ينجح لولا عواصف الحقد والوشايات التي اجتمعت فوق رأسه كي تقتلعه من جوار السلطان وقد كان، فتباعد ما بينه وبين السلطان عبد الحميد، وكي تكتمل للأسطورة قصتها، يقتل الرجل مسموما في نوبة من نوبات الغدر التي كثيرا ما تمر ببلاد الشرق.
سيكون هاما هنا على خلفية هذا الحديث عن الشرق والغرب أن نتذكر ما قاله الراحل الكبير د/ زكي نجيب محمود في كتابه الشهير أفكار ومواقف (فبعد أن كنت مخموراً بشيء اسمه ثقافة الغرب، جاءت صفحتي الجديدة لتقول: ثقافة الغرب مصقولة مع أصول الثقافة العربية. لقد تمنيت لأمتي في ما سبق أن تكون قطعة من الغرب، لكنني اليوم أريد لها أن تكون أمتي هي أمتي).