في أزمة لم يسبق لها مثيل منذ نحو 70 عاماً داخل ألمانيا، فشلت الجهود في تشكيل حكومة مكونة مما يعرف هنا بائتلاف جمايكا، وهي الأولى التي تواجه المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل منذ توليها منصبها في البلاد منذ العام 2005.
انهارت المفاوضات التي وصفت بالعسيرة بعد أن انسحب وبشكل مفاجئ الحزب الديموقراطي الحر "الليبرالي" بعد قطع أسابيع من أشواط الحوار، والذي كان يمثل الجزء الأصفر من علم جمايكا، والمكون بالإضافة إليه من الأخضر والأسود، مرجعاً ذلك لعدم وجود الثقة بين الأطراف الأخرى المعنية، وحتى إن كتب النجاح لهكذا تحالف في التوصل لتشكيل حكومة، فلن يكن من السهل عليها أن تصمد طويلا، في ظل التباين الشاسع بين الأطراف.
الفشل في التوصل لاتفاق بين الأطراف المعنية بعد جولات التفاوض في برلين، يرجع إلى عدة نقاط أبرزها كانت مسألتي المال والهجرة، فقد كان يطمح الحزب الليبرالي لتولي وزارة المالية في البلد الأكبر اقتصاديا على الصعيد الأوربي، وإدخال تعديلات مالية جديدة لأوربا يرفضها الفريق المحافظ، كما شكلت نقطة لم الشمل لعائلات الاجئين التي تمسك بها حزب الخضر عائقا آخرا، في حين أن الكتلة المحافظة حزمت قرارها بسياسة أكثر تشدداً تجاه قضية اللجوء، بتحديد أعداد اللاجئين الذين ستستقبلهم ألمانيا، وهي نقاط يبدو أنها كانت غيض من فيض في بحر القضايا الخلافية الأخرى.
ورغم هذا الفشل في تشكيل الحكومة، تبدو المرأة الحديدية أنغيلا ميركل لم تتزعزع، وليس لديها أي خشية على مستقبلها السياسي؛ الذي يرى كثيرون بأنه بات على المحك، كما أنها لن تستسلم؛ حتى وإن تم التوجه لانتخابات جديدة في البلاد، وستكون الدكتورة الفيزيائية على رأس المرشحين مجدداً.
الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير يجري هذه الأيام لقاءات مكوكية مع كافة الأحزاب يمنياً ويسارا، لعله يتمكن من إقناعهم بقبول تحالف مع المستشارة ميركل، تجنباً للذهاب لانتخابات جديدة، تجنب البلاد غموضا جديدا، وميزانية تقارب على 95 مليون يورو.
ولعل الذهاب لانتخابات جديدة في البلاد ستكون مغامرة سيكون لها تبعات إيجابية بالنسبة للمستشارة ميركل، حيث من الممكن أن تقوي فرصتها وتعطيها وقتاً أطول لتطبيق وعود لها أو تغيير بعض السياسات، لكي تدفع مزيداً من الناخبين للتصويت لحزبها، أو ستكون تبعاتها عكسية، حيث ستكون إنتكاسة لها إذا ما فشلت في تحقيق ذلك، وربما يساهم في صعود نجم اليمين المتطرف تارة أخرى المتمثل في حزب البديل، و الذي بدا هو أيضاً متحمساً لانتخابات جديدة، كونه اعتبر فشل ميركل في التوصل لإتفاق لتشكيل حكومة، نجاحاً له ولبرنامجه الذي يعتمد على التحريض على الأخيرة، و يرفض سياسة اللجوء التي اتبعتها.
هذه الأزمة تذكرني بشكل كبير بالسيناريو التركي، حين أخفق الحزب الحاكم العدالة والتنمية عام 2015، في تحقيق الأغلبية البرلمانية لتشكيل حكومة بشكل مريح بنسبة الخمسين في المائة، مما حدا به للتوجه ثانية لصناديق الاقتراع مطلع عام 2016 حتي نجح بتجاوز هذه العتبة، وتشكيل الحكومة منفردا، ولكن الغموض هنا سيبق سيد الموقف في الحالة الألمانية، كون توقع النتائج يبقى صعباً، ولوجود بعض الفوارق في كلتا الحالتين .
من الخيارات الأخرى المطروحة أمام الألمان لتجاوز الأزمة الحالية، وحالة الفراغ السياسي السائدة، تشكيل حكومة أقلية بين الائتلاف الثلاثي "جمايكا"، ولكنها ستكون بالطبع ضعيفة، وستلزم بالتصويت على قراراتها من البرلمان مباشرة، ولكم هنا أن تخيلوا السيدة ميركل التي تعد من أقوي نساء العالم، ستصبح ومع كل قرار تريد اتخاذه ملزمة بالعودة للبرلمان في طريقة بيروقراطية؛ لا تناسب دولة بحجم ألمانيا ولا شخصية بحجم ميركل، وسيخفف ذلك بالطبع من صلاحياتها، وهو ما لا تحبذه المستشارة الألمانية، وتفضل خيار اللجوء لإنتخابات جديدة على ذلك.
هي خيارات ثلاث أمام الألمان إذا، ستحدد مسير السياسة في البلاد خلال الفترة القادمة، ستكون فيها الكلمة الفصل للرئيس شتانمير، ولكني أعتقد بأنه إذا استطاع أن يقنع رئيس الحزب الإشتراكي الديمواقراطي مارتين شولتز بالعدول عن موقفه للبقاء في المعارضة، وتكوين تحالف جديد مع المستشارة ميركل وتكتلها المسيحي بشقيه الديمقراطي والاجتماعي البافاري، حتى وإن تقاسما كعكة رئاسة الحكومة لمدة سنتين لكل منهما، وهذا جائز دستورياً، لاسيما وأن الرجلين أصدقاء وعملا معاً تحت لواء الإشتراكيين الديموقراطيين، ومارسا مهاماً دبلوماسية متقاربة؛ سيكون الخيار الأنسب، لأن هكذا تحالف أتبث عملياً نجاحه في البلاد، و لأكثر من مرة.
خيار التوجه للجمهور لإجراء إنتخابات جديدة، يبق مطروحاً وهو الخيار الأقوى بنظري للخروج من المأزق الحالي، وإن كان لا يحبذه الرئيس الألماني، ولكن ثلاثة من الأحزاب الكبرى في البرلمان تميل إليه، لاعتقادها بأنها ستحقق نتائجا أفضل، من بينهم حزب البديل اليمني المتطرف؛ الذي بات القوة الثالثة فعلياً في البرلمان.
ما يعزز هذا الخيار أيضا استطلاع للرأي أجراه معهد فورسا لقياس إذا ما كانت الأغلبية في ألمانيا؛ يرون أن إجراء انتخابات جديدة هو المخرج من المأزق السياسي الحالي في البلاد، حيث أيد ما نسبته 45% من الناخبين الألمان ضمن الاستطلاع إعادة الانتخابات البرلمانية، فيما عبر27% منهم عن رغبتهم بتشكيل ائتلاف حاكم كبير من الحزبين المسيحي الديمقراطي والحزب الاشتراكي الديمقراطي، أما تشكيل حكومة أقلية تجمع الحزب المسيحي مع الحزب الديمقراطي الحر أو مع حزب الخضر، فقد حاز على نسبة 24% وهي الأقل.