بينما كنت أراقب عبر وسائل الإعلام ردود الفعل من قبل الحكومة النيوزيلندية، تحديداً رئيسة الوزراء جاسيندا أردرن، وهي تتعامل مع مذبحة المسجدين بأعلى درجة من الحكمة والمسؤولية، واستمرت في إظهار التضامن والمواساة للجالية المسلمة بعد المذبحة التي ارتكبت بحق العشرات منهم على يد متطرف يميني متشدد (لن أذكر اسمه هنا كما طلبت هي بتجاهل هذا الاسم النكرة)، رغم أنه لم يأت من
نيوزيلندا ذاتها، وهنا لا فرق فالإرهاب لا يعرف دينا ولا جنسية ولا حدوداً.. كنت أقارن تلقائياً مع وضع
المسلمين في ألمانيا خصوصا وأوروبا عامة.
ففاجعة مثل هذه التي حصلت في كرايست شيرش، كان يمكن أن تحصل في أي مدينة ألمانية أو حتى أوروبية، فالظروف متشابهة إلى حد كبير في ما يتعلق بالجالية المسلمة، فلا تكاد مدينة أوروبية تخلو من وجود المسلمين الذين يعدون من ضمن الأقليات، بالتالي وجود مساجد أو مراكز أو تجمعات لهم.
وبغض النظر عن ذلك، فإن هذا ما يميز الدول الغربية التي تحوي في تركيبتها تشكيلات دينية وثقافية وعرقيات مختلفة، تعيش جميعاً مع بعضها البعض تحت طائلة قانون واحد لا يفرق بينها.
والإسلام في ألمانيا يعد من أبرز الموضوعات التي تثير جدلاً كبيراً لعدة عوامل أبرزها:
أولا: عدد الجالية المسلمة في ألمانيا كبير جداً، فهناك بعض الإحصاءات ترصد بأن أعدادهم تفوق الخمسة ملايين نسمة، ولكن بمقارنة العدد مع عدد السكان الذي يتجاوز الثمانين مليونا، تظهر هذه الجالية كأقلية.
ثانياً:
اليمين المتطرف يعتمد في حملته على معاداة الإسلام والتخويف منه، واستغلال كل صغيرة وكبيرة ضده، وليس أدل على ذلك من حزب البديل الذي أستطاع أن يكون القوة الثالثة في البرلمان في الانتخابات البرلمانية، والذي يعتمد في خطابه على شعار معاداة الإسلام والمسلمين، وكذلك حركة بيغيدا اليمينية المتطرفة، التي تتخذ من مدينة دريسدن مقراً لها وتتظاهر كل يوم اثنين للمطالبة بطرد اللاجئين، ولا سيما المسلمين منهم، ووقف "أسلمة المجتمع".
ومع الأسف، فإن هذه الحملات التي دأب اليمين المتطرف على العمل عليها؛ لاقت استجابة لدى فئة كبيرة من الشارع، واستطاعت كسب الكثير من المصوتين لصالحها في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وكذلك انتخابات الولايات.
ثالثا: ظاهرة
الإسلاموفوبيا التي دأبت الحملات الإعلامية لدى وسائل الإعلام على تعزيزها للتخويف من كل ما علاقة له بالإسلام، واستغلال أحداث إرهابية تورط بتنفيذها مسلمون (وهم فئة قليلة ومنبوذة من المسلمين أنفسهم) لوصم الإسلام بالإرهاب.
ومع حملة التضامن النيوزيلندية مع الضحايا المسلمين التي لمستها ولمسناها جميعاً، وجدت بأن هناك قصوراً كبيراً في التعامل مع الإسلام في ألمانيا.
فمع رفع الأذان في جميع أنحاء نيوزيلندا، وعبر جميع وسائل الإعلام النيوزيلندية الرسمية للتضامن مع الضحايا المسلمين، فإن هذا الآذان الذي يبدأ بـ"الله أكبر" لطالما خوّف الإعلام الألماني جمهوره منه؛ بحجة أن إرهابيين قد رددوا هذه العبارة عند تنفيذ عملياتهم، مما يبث الذعر والرعب في قلوب الألمان عندما يسمعونها، حتى وإن صدع بها هاتف أحد المسلمين في البلاد وقت الأذان، رغم أن للجملة معنى مشابها تماماً عند ترجمتها بالألمانية.
وارتدت رئيسة الوزراء والنسوة في نيوزيلندا (وهن غير مسلمات) الحجاب، تضامناً مع الضحايا ودينهم، وقد شاهدنا أطفالا أيضا يرتدون الحجاب، وهي الصورة المخالفة لبعض الآراء من المسؤولين في ألمانيا، التي طالبت بحظر الحجاب للأطفال في المدارس، بل ت منع بعض الموظفات المسلمات من ممارسة عملهن بسبب الحجاب.
وبعد وقوع الحادث الدموي في كرايست شيرش، وصفته رئيسة الوزراء هناك بالإرهابي منذ اللحظات الأولى، واعتبرت أن الهجوم يستهدف الجميع في بلدها، ويستهدف القيم والانفتاح والتسامح في المجتمع، لكن هناك من لا يزال يردد في ألمانيا أن "الإسلام لا ينتمي لبلدنا".
وقد خرجت إحدى الصحف النيوزيلندية وعبر كامل صفحتها الأولى؛ بكلمة "سلام" باللغة العربية، مع كتابتها بحجم أصغر بالإنجليزية، مع كتابة أسماء الضحايا تحتها، في الوقت الذي كتبت فيه صحيفة برلينية وهي "B.Z" أن الحادث الإرهابي الغادر في نيوزيلندا جاء رداً على هجوم برلين الذي نفذه الإرهابي أنيس العامري، في تبرير غير مقبول، بدلاً من أن تعتبر أن الإرهاب سواء، أكان منفذه مسلما متطرفا أو مسيحيا متطرفا.
وقررت الحكومة النيوزيلندية أيضا حظر كل أنواع الأسلحة الآلية وشبه الآلية والبنادق الهجومية، وذلك في أعقاب مجزرة المسجدين، تزامن ذلك مع مطالبات سياسيين ألمان بارزين بوقف حظر تصدير الأسلحة لدول تستخدمها لقتل مدنيين وعزل من دول أخرى.
وبنظرة إنصاف للنصف المليء من الكأس في ألمانيا، فإن هناك الكثير من المواقف الجيدة تجاه الإسلام والمسلمين، لا سيما في التعامل مع هجوم كرايست شيرش، بإدانة الحادث واعتباره إرهابيا، ومشاركة نيوزيلندا بالمواساة بعد المذبحة التي ارتبكت بحق 50 مصلياً مسلماً. واعتبرت هذه المواقف أن الجريمة استهداف للمجتمعات المنفتحة والمتسامحة. وصدرت هذه المواقف خصوصا من قبل أعلى هرم في السلطة، ممثلا بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وكذلك وزير الخارجية هايكو ماس، وتبع ذلك بعض الإجراءات التي تهدف لتعزيز الأمن حول المساجد والتضامن مع مسلمي البلاد، والوقوف إلى جانبهم في مواجهة العنصرية التي تستهدفهم.
وأمام هذه الإجراءات التي لاقت ارتياحاً لدى شريحة من المسلمين الألمان، يرى البعض أنها غير كافية لضمان عدم تكرار سيناريو كرايست شيرش في ألمانيا.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن التطرف اليميني الذي يستهدف الإسلام والمسلمين؛ ليس خطراً عليهم وحدهم، بل خطرا على المجتمع الديمقراطي بأكمله، وعلى القيم التي تميزه من انفتاح وتسامح وتعدد وتقبل للآخر، لكون المسلمين أصبحوا جزءاً لا يتجزأ منه.
وهذا يتطلب بعض الإجراءات التي يمكن أن تمنع تكرار سيناريو كرايست شيرش في ألمانيا، لا سيما وأن البلاد شهدت المئات من الاعتداءات سنوياً على مسلمين ومراكز ومساجد تابعة لهم، بحسب إحصائيات رسمية،
وتتمثل الإجراءات فيما يلي:
أولاً: الاعتراف بالإسلام دينا رسمياً في ألمانيا، كما هو الحال في بعض الولايات، بينها هامبورغ التي تعد أول ولاية تعترف رسمياً بالدين الإسلامي.
ثانياً: سن قوانين وشرائع صارمة تجرّم معاداة الإسلام، كما يتم التعامل مع معاداة السامية على سبيل المثال، وتعيين ممثل عن المسلمين في البرلمان لمكافحة هذه الظاهرة.
ثالثاً: وضع حد لسلوك اليمين المتطرف من ناحية عدائه للإسلام والمسلمين وجعله من العنف سلوكاً مقبولاً لدى البعض، مما يشكل خطراً على المسلمين الذين هم مواطنون ألمان، وهو ما يشكل خطراً على المجتمع.
رابعاً: وقف حملات الإسلاموفوبيا بشكل تام في وسائل الإعلام، ومعالجة الخوف من الإسلام، وعدم ربط الإسلام بالإرهاب بأي شكل من الأشكال، وتوضيح أن الإرهابيين من خلفيات إسلامية هي حالات معزولة لا علاقة لدينهم بذلك، بل هم فئة معزولة من المسلمين ذاتهم.