أشعل قرار الرئيس الأمريكي، باعتراف بلاده بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، عاصفة احتجاج شعبية على طول العالمين العربي والإسلامي، وفي عواصم عالمية عديدة. إلا أن المواقف الرسمية للدول العربية والإسلامية ما زالت دون مستوى الحدث، وتكاد تكتفي بالإدانة اللفظية والتحذير من العواقب السلبية للقرار، ربما في انتظار التئام القمة الطارئة لمنظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول الأربعاء المقبل.
للقرار الأمريكي دلالات ثلاث مهمة ينبغي الإحاطة بها:
الأولى، انتهاء عملية التسوية وحل الدولتين والدور الأمريكي كوسيط في عملية السلام؛ نهاية عملية لا رجعة عنها، بكل ما يترتب على ذلك من تداعيات وانعكاسات.
الثانية، تفعيل واشنطن سيناريوهات تصفية القضية الفلسطينية، التي تبدو واضحة المعالم حتى الآن، بعد إزالة "عقبة" القدس بهذه الطريقة الفجة، وهو ما يعني أن القادم خطوات متسارعة بهذا الاتجاه، وبالتالي فلا يجب النظر للقرار على أنه محصور بالقدس فقط على أهميتها.
الثالثة، أن الشارع العربي تحديداً ما زال نابضاً بالحيوية والحياة رغم كل ما أصابه، وما زالت فلسطين والقدس بوصلته، وهو مؤشر يقول بوضوح إن محاولات التدجين كلها فاشلة.
وفق هذه الرؤية تترتب على الجميع مسؤوليات كبيرة وواضحة إزاء هذا التطور الاستثنائي والتاريخي بالمعنى السلبي ونتائجه الكارثية المتوقعة. وينبغي، من باب المكاشفة والمصارحة، الإشارة بوضوح إلى أن المظاهرات الحاشدة في كل الدول والمدن لا تملك القدرة على الضغط المباشر على الولايات المتحدة للعودة عن قرارها، إذ ما يمكنه فعل ذلك ثلاثة أطراف فقط:
الأول، الواقع الميداني والشعبي في الضفة المحتلة (خصوصاً القدس)، القادر على إقلاق الكيان الصهيوني.
الثاني، السلطة الوطنية الفلسطينية، عبر قبضتها الأمنية والإجراءات السياسية والقانونية التي تملكها.
الثالث، الإجراءات التي يمكن أن تتخذها الدول العربية والإسلامية تحديدا، أبعد من مجرد التنديد اللفظي والشجب والإدانة، بدءاً من الخطوات الدبلوماسية، مروراً بالإجراءات الاقتصادية، وليس انتهاءً بالعلاقات مع الكيان الصهيوني نفسه.
وبالتالي، أعتقد أن على عاتق الجميع مسؤولياتٍ وأدواراً تختلف باختلاف الموقع والقدرات وإمكانية التأثير، كما يلي:
أولاً، مساحة التأثير الأبرز في الضفة الغربية المحتلة ومن ضمنها القدس، التي تمكنها من أن تقض مضاجع الكيان الصهيوني بهبة شعبية تتطور باستمرار للوصول إلى مرحلة العصيان المدني، مع تحركات فردية كثيرة ومتنوعة يصعب احتواؤها. تملك الضفة القدرة على الضغط المباشر على العدو الصهيوني، وبالتالي غير المباشر على واشنطن، وعلى إدامة حالة الغليان في مختلف العواصم، وبالتالي الضغط على الحكومات لتتخذ مواقف عملية عالية السقف في قمة منظمة التعاون بعد أيام، وقبلها وبعدها على المستوى الفردي.
ثانياً، رغم ضعفها وترهلها وضعف الثقة بها، تملك السلطة الفلسطينية أوراق ضغط لا يملكها غيرها في معركة الدفاع عن القدس والقضية الفلسطينية. على السلطة، قبل أي شيء، واجب الوقوف بصدق أمام استثنائية اللحظة التاريخية، وتقع عليها مسؤولية ضخمة.
تملك السلطة الإعلان عن وقف عملية التسوية التي جرت الويلات على القضية الفلسطينية وساهمت - ضمن عوامل أخرى - في تسهيل قرار ترمب اليوم. وتملك سلسلة إجراءات تبدأ من تخفيف القبضة الأمنية على المقاومين والنشطاء ووقف التنسيق الأمني مع العدو، وتمر بعملية "المصالحة" التي تماطل بها وتعيقها حتى الآن، ولا تنتهي بالتوجه للمؤسسات والمحاكم الدولية ضد القرار الأمريكي.
دون ذلك، ستضع قيادة السلطة نفسها موضع الشك والتهمة بالتواطؤ مع القرار، والتناغم معه ضمناً وفعلياً، رغم الرفض اللفظي. وعليها أن تتحلى بالوطنية، أو على الأقل بالذكاء، لتدرك أن قرار ترمب هو إعلان نهاية وفشل مشروعها السياسي الذي راهنت عليه؛ ورهنت القضية الفلسطينية له دون استشارة الشعب أو العودة له. وبالتالي، فإما أن تعود لتتناغم مع شعبها وتدعم مقاومته وانتفاضته، وإما أن يتحول الغضب إليها مع العدو الصهيوني إذا ما عاندت وواصلت في طريقها المسدود.
ثالثاً، ينبغي على المقاومة في غزة تجنب الاستفزازات الصهيونية ومحاولات جرها لمواجهة عسكرية في هذه الفترة، يريدها الاحتلال لوأد الهبة الشعبية في الضفة في بداياتها ومنع تطورها. وينبغي على المقاومة هنا أن تحسب حساباتها بدقة، وفق استراتيجية واضحة تخدم الهدف النهائي الذي يريده الجميع.
رابعاً، على منظومة العمل العربي الرسمي المشترك أن تثبت أنها فعلاً على قدر الحدث، ليس فقط للتأثير على قرار الإدارة الأمريكية، ولكن لتبرئة نفسها من شبهة التواطؤ معها. ولعل مخرجات اجتماع وزراء الخارجية العرب الأخير يدينها أكثر مما يبرئها.
خامساً، ليس من المنتظر أن تخرج قمة منظمة التعاون الإسلامي الطارئة بقرارات استثنائية؛ لأسباب كثيرة، أهمها الضعف والتشرذم والخلافات البينية. لكن ليس مقبولاً أن تكتفي القمة بالشجب والإدانة في ظل حالة الغليان الكبير وخطورة القرار الأمريكي. إن الأنظمة العربية والإسلامية اليوم؛ أمام مسؤولية الخروج بقرارات مختلفة وذات أثر عملي مباشر للضغط على واشنطن، لا سيما وأن القمة تفتح الباب على إمكانية اتخاذ قرارات جماعية؛ أكثر تأثيراً وأعلى سقفاً وأقل إحراجاً من القرارات الفردية.
ورغم ذلك، على كل دولة من الدول مسؤولية ذاتية لا ينبغي التنصل منها، بغض النظر عن مخرجات القمة، فيما يتعلق بالعلاقات مع الولايات المتحدة ومع الكيان الصهيوني، لا سيما الدول التي تملك علاقات دبلوماسية معه، مثل مصر والأردن وتركيا وغيرها. وما دون ذلك، ستكون هذه الدول قد طمأنت واشنطن على سلامة قرارها وغياب ردود الفعل المؤثرة، ما سيشجعها على الانتقال لخطوات لاحقة أكثر خطراً.
سادساً، على الشعوب العربية والمسلمة تحديداً مسؤوليات حقيقية أمام هذا الحدث الاستثنائي، بأن تثبت أن ردة فعلها ليست عاطفية ولا مؤقتة. الاستمرار بالمظاهرات والفعاليات والتحركات مهم جداً لرفع معنويات النشطاء والمقاومين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولرفع سقف الأنظمة للضغط بشكل حقيقي على الولايات المتحدة، وهو الأمر الممكن اليوم، في ظل الرفض الدولي لقرار ترامب، وتعارضه مع القرارات الدولية المجحفة بحد ذاتها بحق الفلسطينيين.
إضافة إلى ذلك من المهم اليوم تفعيل مقاطعة والبضائع "الإسرائيلية" والأمريكية، وفق أسس علمية واضحة ومقنعة، وتشويق محفز، خصوصا وأن حملات المقاطعة الاقتصادية كانت قد أثبتت نجاعتها قبل تخلي الكثيرين عنها.
ثمة أمر أخير ينبغي التنبه له والتنبيه منه، وهو محاولات بعض الأطراف لامتصاص الغضب الشعبي وتنفيسه، ثم محاولة احتوائه مستقبلاً، وهذا يجعل من مسؤولية الشعوب ونخبها مضاعفة.
القدس وأمريكا: لغة الاحتلال والإمبريالية وجاذبية المعجم الجهادي
تونس المعتدلة تقف موحدة ضد ترامب
تهويد القدس مسنود بالثورة المضادة