(1)
ذات مرة كتب الناقد الناري فاروق عبد القادر (رحمة الله عليه) مقالا هجوميا ضد يوسف إدريس، وبعد وقت قصير أدرك أن المقال تجاوز الحدة إلى حالة من الاستهزاء المهين، تجلت في العنوان "هوس البحث عن الفتحة"، فعاد وكتب مقالا ينصف فيه موهبة إدريس القصصية الفذة، ووضع له عنوانا شاعريا يصالح فيه بين الرماد والجمر. لكن عبد القادر لم يتراجع عن مقال الهجوم، بل اعتبره "صراحة منقوصة"، أراد أن يكملها في مقال يقدم فيه الوجه الآخر للعملة، ونشره بالفعل تحت عنوان: "للقمر وجهان.. وهذا وجهه المضيء". ولما كتبت في الأسبوع الماضي مقالي عن نجيب محفوظ، لم أكن أقصد إطلاقا الهجوم على الأديب الكبير، ولم أفكر في ثنائية "الوجه المظلم" و"الوجه المضيء"، لذلك قلت في ختام المقال إن قيمة محفوظ لا تنبع من حياته الشخصية، ومواقفه المزاجية، بل من قيمة الأدب الذي تركه للأجيال، ووعدت باستكمال الجانب الناقص من المقال بالحديث عن أدب نجيب محفوظ، وبالتحديد عن مأزق كمال عبد الجواد الذي يعكس لنا جانبا من المأزق العام الذي يحاصرنا، خاصة وأن كمال كان بمثابة قناع فني لشخصية محفوظ الواقعية والأدبية، بل بمثابة "هاملت عربي" يعبر عن حالة الهزيمة الشاملة للمجتمع؛ من خلال الإحساس الهزيمة الشخصية. ولا أقصد هزيمة كمال ولا محفوظ، لكني قصدت هزيمتي وهزيمتك وهزيمتها، وهزيمتهم، فكلنا مهزومون؛ أنفقنا الكثير من الجهد والعمر في تتبع السراب، لذلك فإن سيرة كمال عبد الجواد هي سيرتنا جميعا.. ولنقرا إذن ما تيسر من سيرة الحالمين النبلاء المهزومين.
(2)
شاخ كمال عبد الجواد، وما زال حائرا مترددا، يبحث عن يقين فلا يجد إلا السراب. اعتزل التدريس بعد أن تدهورت أحوال التعليم، هجر الفلسفة وكتابة المقالات، ويذهب كل خميس إلى مقهى صغير بجوار ورشة أحذية في الجمالية، يسميه على غير الحقيقة "قهوة أحمد عبده". هناك يتوه في برزخ هلامي بين زمنين، يخلع حذاءه ويسلمه لإسكافي أبكم عجوز لا يغادر القهوة أبدا.. الإسكافي لا يمتلك أي أدوات لصيانة الحذاء المهترئ، ولا يقوم بتلميعه، فقط يحتفظ به تحت إبطه، ويعود ليفترش البلاط في سكون كأنه تمثال. يجلس كمال بجوار صاحب المقهى الأعمى، يحدثه عن الثورة.. الثورة التي ضاعت في 19، والثورة التي تضيع منا في كل التواريخ!
(3)
مات فهمي، ومات سعد باشا نفسه، راحت أيام، وجاءت أيام، ذهبت أحلام، وحلت أحلام، ولم نعرف من كان على حق؟ ومن كان على أوهام؟
يمر حمادة الحلواني بعد أن هجر شلته على مقهى قشتمر، وعندما يسمع كلمة "الأوهام"، يضبط نظارته بإصبعه ويقول ممازحا: حد بيسأل عني؟.. ثم يغني مقلدا عبد الوهاب: "أنا من ضيع في الأوهام عمره/ نسي التاريخ أو أنسى ذكره/ غير يوم لم يعد يذكر غيره".. ثم يشير نحو كمال بعكازه، محرفا كلمات الأغنية وهو يقول ضاحكا: يوم أن "قابلتك" أول مرة.
(4)
يتذكر كمال مصائر أحمد عاكف، وأنيس زكي، وعثمان خليل، وعمر الحمزاوي، وعيسى الدباغ، ويهمس بصوت مسموع: كلها أوهام، حتى "فهمي" ضيع حياته في الأوهام.. أحيانا أشعر أنه لم يستشهد من أجل الوطن والاستقلال، بل انتحر بعد أن طعنته مريم رضوان بخيانة حبه مع عسكري إنجليزي!
(5)
على شاشة التلفزيون العتيق في ركن المقهى كان سعيد مهران يهتف: يسقط حكم العسكر، ثم يظهر المذيع الشهير رؤوف علوان ليقدم في برنامجه كلا من الدكتور محجوب عبد الدايم، والشيخ متولي عبد الصمد، والمستشار فؤاد جميل حمزاوي. يشيح كمال بوجهه بعيدا عن التلفزيون، ويشير للإسكافي: هات الجزمة. وعندما يهم بالانصراف، يخاطبه المستشار حمزاوي غامزا بمكر: على فين يا كمال، لقد قابلت أناسا يسألون عنك! التفت كمال نحو الشاشة بارتباك، وهو يسمع فؤاد يضيف ضاحكا: هل تذهب للتضامن مع الشهيدتين "قمر ونرجس".. ابنتي أبو سريع صاحب المقلى في "قبو قرمز"، ثم يغني بابتذال أغنية سهام رفقي: "يا أم العباية.. حلوة عباتك/ جمالك آية.. زينة صفاتك".
(6)
يمشي كمال وحيدا في الأزقة المظلمة بعد الغروب، يتذكر أيام المراهقة المحمومة، وذلك العبث المشوب بالسذاجة الدنسة أو الدنس الساذج، لا فرق، وفجأة يرى صورة شقيقته عائشة عبد الجواد وراء الشباك تتابع خطوات فارس أحلامها الضابط العاشق، وصوت خديجة يرن في أذنه بأغنية: "يا أبو الشريط الأحمر ياللي/ قهرتني.. ارحم ذلي". يتذكر سؤاله الخبيث لأمه: "هل يخاف أبي الله يا نينة؟"، ويهمس لنفسه: كان أبي قويا، لكنه كان قاسيا، كان شهما، لكن به بعض من فساد، أنا لا أعرف ماذا كان أبي، وهل كان فساده يختلف عن فساد أم حنفي التي ضبطتها أكثر من مرة تسرق الطعام مستغلة طيبة أمي.. الكبار فاسدون والصغار فاسدون، الأغنياء فاسدون والفقراء فاسدون، الأقوياء والضعفاء، المتعلمون والجهلاء، يبدو أن الفساد ضرورة في كل مكان وكل عصر.. "ماذا تخبئ لنا أيها الغد؟".
(7)
"ماذا تخبئ لنا أيها الغد؟".. ليس سؤال كمال وحده، لكنه سؤال المناضل الوطني علي طه في ختام رواية "القاهرة الجديدة".. "علي طه".. رفع كمال الطربوش وهرش رأسه، عندما تذكر أن علي طه الآن في السجن بتهمة كسر قانون التظاهر! ثم بدأ يوجه اللوم لمحفوظ: ما هذا الخازوق يا عم نجيب؟.. لماذا أتيت بي إلى هنا، وغرست داخلي كل هذه الحيرة؟
(8)
عند ناصية الزقاق المظلم قرب بيت العائلة الخاوي حتى من الذكريات، كان عم محمد بياع الكسكسي يغني هازئا من تغير الأحوال: الدنيا مالها يا زعبلاوي/ شقلبوا حالها وخلوها ماوي/ شقلبوا حالها وين المداوي/ شوفوا البلاوي ده البنك ناوي/ يرفع دعاوى علشان يتاوى/ مليحة قوي القلل القناوي/ رخيصة قوى القلل القناوي.. رخيصة قوي القلل القناوي.. رخيصة قوي.. رخيصة...
tamahi@hotmail.com
أثر غياب الأمن على الترابط المجتمعي
النووى مقابل عودة السياحة الروسية لمصر