عادت من جديد مسألة تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني؛ إلى الساحة السياسية التونسية. فقرار الرئيس الأمريكي المتعلق بالقدس هو الذي أيقظها مرة أخرى، وأشعر أطرافا عديدة بأهمية القيام بإجراء سياسي وتشريعي يرتقي إلى خطورة الحدث. وقد تكون السنة الجديدة (2018) حاسمة؛ فيما يتعلق بإصدار البرلمان التونسي قانونا يمنع أي طرف محلي من الاقتراب من إسرائيل، ومن دوائرها الكثيرة والمتداخلة.
بعد اندلاع الثورة مباشرة، ارتفعت أصوات عديدة للمطالبة بتجريم التطبيع، وهو ما أشر مجددا إلى وجود علاقة وثيقة بين ممارسة الحرية الشعبية من قبل الجماهير التونسية؛ وبين الاستمرار في الدفاع عن القضية الفلسطينية باعتبارها قضية مركزية. وقد تمت ترجمة ذلك في مشروع تقدمت به بعض الأطراف الحزبية والمدنية؛ من أجل إضافة فصل في الدستور التونسي ينص على تجريم التطبيع مع تل أبيب. ورغم الضغوط والتحركات الميدانية التي تمت في هذا السياق، إلا أن موازين القوى داخل المجلس الوطني التأسيسي حالت دون تمرير هذا المشروع. فالتيارات القومية، مدعومة بتنظيمات أقصى اليسار، لم تكن تملك العدد الكافي من النواب الذي يسمح بتحقيق الاختراق المطلوب، والتصويت لصالح مشروع القانون.
بعد اندلاع الثورة مباشرة، ارتفعت أصوات عديدة للمطالبة بتجريم التطبيع، وهو ما أشر مجددا لوجود علاقة وثيقة بين ممارسة الحرية الشعبية والاستمرار في الدفاع عن القضية الفلسطينية
لا يعني ذلك أن بقية أعضاء المجلس التأسيسي كانوا مع
التطبيع، أو أنهم غير مؤمنين بعدالة القضية الفلسطينية، وإنما برروا إسقاط المشروع بحجة كونه لا يمكن إدراجه ضمن ببنية الدستور ووظيفته. وهكذا، قاموا بترحيله إلى فترة لاحقة؛ كي تتم مناقشته كمشروع قانون وليس كقاعدة دستورية.
عندما تم
اغتيال الشهيد الزواري، توفر مناخ ملائم لإدراج مشروع قانون تجريم التطبيع مجددا على جدول أعمال البرلمان، بعد أن عبّر مئات الآلاف من التونسيين عن غضبهم العميق تجاه هذا الاعتداء المباشر على بلادهم وعلى أحد أبنائهم. لكن سرعان ما انشغلت الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني بقضايا محلية أخرى؛ فرضت نفسها على الجميع.
أما الآن، ورغم كثرة المشاكل وتدافعها وتعدد الانقسامات في صفوف السياسيين وتفرعها، إلا أن قضية القدس ثقيلة في ميزانها وعميقة في دلالتها الرمزية والاستراتيجية، ولهذا سيكون من الصعب غض الطرف عنها، مهما كان حجم الحسابات السياسية لهذا الحزب أو ذاك.
رغم كثرة المشاكل وتدافعها وتعدد الانقسامات في صفوف السياسيين وتفرعها، إلا أن قضية القدس ثقيلة في ميزانها وعميقة في دلالتها الرمزية والاستراتيجية
يمكن القول بأن انخراط حركة
النهضة في هذا المسار، وتجنيد نوابها للدفاع عن مشروع القانون، سيشكل عاملا حاسما في ضمان تمريره والتصويت لصالحه بأغلبية مريحة، وذلك في حال إن لم يحظ المشروع بإجماع كل النواب. وقد سبق أن اتهم القوميون بالخصوص حركة النهضة؛ بكونها قد التفت على هذا المشروع عند عرضه على المجلس الوطني التأسيسي، وأنها غلبت مصالحها الحزبية على قضية فلسطين. وهو ما ترفضه حركة النهضة بشدة. وهم يقصدون بذلك ما حدث بعد الثورة، عندما عملت الحركة - ولا تزال - على تجنب إثارة مخاوف القوى الغربية منها، وهو ما جعلها حريصة على تقديم نفسها كطرف سياسية معتدل، من خلال التزامها الصريح أو الضمني بعدم تجاوز "الخطوط الحمراء"، وفي مقدمتها رفع درجات العداء لإسرائيل.
كانت الحركة مشغولة يومها بإعداد نفسها للانتقال من المعارضة إلى السلطة؛ في بلد يعتبر لدى المراقبين والخبراء جزءا من الفضاء الحيوي لأوروبا وأمريكا. ثم ازداد هذا الشعور وتضخم بعد أن أصبحت "حركة النهضة" الحزب الرئيسي الذي أدار حكومتي الترويكا في ظروف صعبة جدا.
كانت حركة النهضة مشغولة بإعداد نفسها للانتقال من المعارضة إلى السلطة؛ في بلد يعتبر لدى المراقبين والخبراء جزءا من الفضاء الحيوي لأوروبا وأمريكا
لا تزال قيادة النهضة متمسكة بهذا الخط السياسي حتى الآن، خاصة وأنها حاليا تشارك في حكومة ائتلافية مع حزب نداء تونس، وفي ظل مرحلة يتولى فيها الباجي قايد السبسي رئاسة البلاد. لكن بعد قرار ترامب تسليم كامل القدس للدولة العبرية، أصبح واضحا أن راشد الغنوشي وأنصاره غير مستعدين لأن يغضوا الطرف عن هذه الجريمة في حق الفلسطينيين؛ لأنهم لو فعلوا ذلك، ودفنوا رؤوسهم في التراب، لأفسدوا حاضرهم، ونسفوا ماضيهم، وضيعوا مستقبلهم. ومن هذا المنطلق، فإنهم على الأقل لن يترددوا في العمل بحماس من أجل قطع طريق التطبيع والمطبعين. إذ ليس لديهم اختيار آخر، حتى ولو أدت هذه الخطوة إلى خلق مصاعب سياسية إضافية في علاقاتهم الدولية. فالمرونة السياسية ضرورية، ولكنها لا تعني تسليم شيك على بياض للقوى المتحكمة في الخارطة العالمية.
لكن بعد قرار ترامب أصبح واضحا أن راشد الغنوشي وأنصاره غير مستعدين لأن يغضوا الطرف؛ لأنهم لو فعلوا ذلك، لأفسدوا حاضرهم، ونسفوا ماضيهم، وضيعوا مستقبلهم
لا يتعلق الأمر فقط بحركة النهضة، وإنما يشمل أيضا أحزابا وتيارات عديدة؛ ستشعر في هذه المرة بحرج كبير عندما سيعرض عليها مشروع القانون المناهض للتطبيع. لا شك في أن ذلك سيثير نقاشا بهدف توضيح المفهوم وتعديل جوانب من المشروع، لكن يستبعد أن يتعمد البعض إسقاطه مرة ثانية. إذ لم تبلغ الجرأة بالبعض أن يطالبوا علنا بإقامة جسور مفتوحة، سواء أكانت سياسية أو تجارية أو ثقافية. فالتطبيع لا يزال يتم بعيدا عن الأضواء وبشكل فردي ومحتشم، خاصة في ظل السياسية العنصرية الخرقاء التي تنتهجها الطبقة السياسية الحاكمة في إسرائيل.