بعد خلاف بين بنك المغرب والحكومة، وارتباك في تطبيق قرار تعويم الدرهم، قررت الحكومة المغربية إعطاء الضوء الأخضر لقرار تطبيق نظام الصرف المرن، حيث سيحدد سعر العملة وفق منطق العرض والطلب، وذلك ابتداء من يوم الاثنين 15 كانون الثاني/ يناير، على أساس أن يكون ذلك ضمن نطاق تقلب حذر نسبيا، بما مقداره 5 في المئة في كلا الاتجاهين، يعني +2.5 في المئة و-2.5 في المئة، عوض +0.3 في المئة و-0.3 في المئة، المعمول بها حاليا.
الاقتصاديون غير متفقين على تقييم آثار هذا القرار. بعضهم يتفاءل كثيرا، بإمكانية أن يؤدي هذا القرار إلى تعزيز تنافسية الاقتصاد الوطني، والمضي نحو ولوج أسواق جديدة، وتنويع شركاء المملكة الخارجيين، وانتعاش قطاع التصدير، وتشجيع استهلاك المنتوجات المحلية في حالة ما إذا تزايد سعر الواردات. لكن، في المقابل، يتوقع بعضهم الآخر، آثارا عكسية لهذا القرار، إذ من الممكن أن يؤدي إلى انهيار قيمة الدرهم، وارتفاع أسعار العديد من السلع المستوردة، وتأثر القدرة الشرائية للمواطنين.
بغض النظر عن التباين في تقييم الاقتصاديين لأثر هذا القرار على الاقتصاد الوطني، وعلى القدرة الشرائية للمواطنين، فإن ما يهمنا في هذا الموضوع، هو بعده السياسي والاستراتيجي
وبغض النظر عن التباين في تقييم
الاقتصاديين لأثر هذا القرار على الاقتصاد الوطني، وعلى القدرة الشرائية للمواطنين، فإن ما يهمنا في هذا الموضوع، هو بعده السياسي والاستراتيجي.
مع مجيء محمد السادس، انطلقت في المغرب سياسة ما يسمى بالأوراش الكبرى. كان يظهر من خلال هذا التوجه أن الملك الجديد كان مثقلا بهمّ الوضع الاجتماعي، والحاجة لإطلاق دينامية كبيرة، تمكن المغرب من الإقلاع، وفي الوقت ذاته، توفر قاعدة نسبة نمو مهمة ومطردة خلال سنوات؛ يمكن توزيع عائداتها من رفع مؤشرات التنمية، والتخفيف من الفوارق الاجتماعية، والحد من معاناة الفئات الهشة.
تقييم هذه السياسة بعد أزيد من عشر سنوات؛ أعطى مؤشرات متقابلة. إذ في الوقت الذي تحسنت فيه مؤشرات الاقتصاد، وتم تحقيق قدر مهم من التوزان في الموازنة المالية للدولة، سمح برفع مساهمة الدولة في الاستثمار، في الوقت الذي خلص فيه التقييم الرسمي لهذه السياسات، بعد اندلاع التعبيرات الاحتجاجية في أكثر من منطقة، إلى استنفاد النموذج التنموي المغربي لأغراضه، والحاجة للتأسيس لنموذج تنموي جديد، بل اتجهت الرؤية الاستراتيجية لتقييم ما يسمى بالرأسمال غير المادي؛ الذي يحظى به البلد، والبحث عن خيارات توظيفه، هذا مع كل الجهد المبذول الذي قدمته الحكومة، سواء في سياساتها الاجتماعية، أو في مخرجات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.
اتجهت الرؤية الاستراتيجية لتقييم ما يسمى بالرأسمال غير المادي؛ الذي يحظى به البلد، والبحث عن خيارات توظيفه
اليوم، أو للدقة منذ سنة 2004، اتجه الملك إلى منحى استراتيجي آخر يكبّر بشكل كبير الحلم الذي رافق الأوراش الكبرى، ومدى قدرتها على تحقيق التطلعات الاقتصادية والاجتماعية الواعدة. إذ بدا من خلال الدينامية التي حركتها الدولة تجاه إفريقيا، وعدد الزيارات التي قام بها الملك لهذه القارة، والتي فاقت 25 زيارة في أقل من تسع سنوات، وحجم الاتفاقات التي أبرمت، وكذا خطوة العودة إلى الاتحاد الإفريقي، والرهان على الانضمام للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، يتبين من خلال ذلك، أن المغرب هذه المرة، يريد أن يضع جزءا كبيرا من بيضه، وربما الجزء الأكبر منه، في إفريقيا، عسى هذه الخطوة أن تعوض ما كان ينتظر من سياسة الأوراش الكبرى، ولتحقق الإقلاعة الاقتصادية الكبرى للمغرب، وتأسيس شبكة مؤشرات تنموية كبيرة تكفي للقضاء بشكل نهائي على الهشاشة الاجتماعية، التي شكلت في جميع محطات التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، التحدي الأكبر للاستقرار.
ضمن هذا السياق، يمكن أن نفهم قرار تعويم الدرهم، الذي يقصد منه إزالة كل العوائق المالية التي تكبح هذا التطلع الاستراتيجي، بعد أن أزيحت العوائق القانونية بعودة المغرب للاتحاد الإفريقي، وبعد أن خدم الرصيد الديبلوماسي الذي استثمره المغرب منذ سنة 2014 في إفريقيا تطلعاته في الامتداد الاقتصادي في العمق الإفريقي.
لكن هذا التطلع المشروع والواعد، الذي بذل في سبيله جهود كبيرة وضخمة، استثمرت فيها الدولة جزءا كبيرا من مقدراتها، يواجه مثل ما واجهت سياسة الأوراش الكبرى، تحدي الإدارة السياسة له، بما يعني ذلك وضع الداخل القانوني والسياسي والإداري والاقتصادي والمالي في خدمة هذا التطلع، والجهة التي تدير التواصل بين المؤسسة الملكية الحاملة لهذا المشروع، والحكومة من جهة، وبين مكونات الحقل الحزبي من جهة ثانية.
ثمة رؤية تدبيرية عارمة تحاول أن تفرض واقع الأمر، حتى لو تطلب الأمر تجاوز كل الاعتبارات الإدارية والسياسية والقانونية والاقتصادية والمالية، بل تحاول أن تصنع خارطة السياسة بناء على هذه التطلعات
ثمة رؤية تدبيرية عارمة تحاول أن تفرض واقع الأمر، حتى ولو تطلب الأمر تجاوز كل الاعتبارات الإدارية والسياسية والقانونية والاقتصادية والمالية، بل تحاول أن تصنع خارطة السياسة بناء على هذه التطلعات، وتلقي باللائمة على الحقل الحزبي؛ كونه لا يتحمل مسؤولية الظرفية الخاصة التي يعيشها المغرب، والتحديات التي تنتظره. وقد رأينا في مسار تشكيل حكومة بنكيران كيف انتصبت حجة إفريقيا والانضمام إليها؛ لفرض انضمام حزب الاتحاد الاشتراكي إلى التوليفة الحكومية، التي راح ضحيتها بنكيران، ورأينا أيضا كيف تم وضع شروط صارمة لقبول الوزراء، منها قضية التوجه نحو إفريقيا، ووضعها ضمن أسبقيات السياسة الوطنية، وربما يفسر البعض تأخير التعديل الحكومي لحوالي أربعة أشهر بهذا الاعتبار.
المشكلة ليست في أن تكون المؤسسة الملكية حاملة لمشروع ضخم يعول عليه المغرب لتحقيق ما لم يستطع أن يحققه في الستين سنة الماضية، بل بالعكس، هذه نقطة قوة محسوبة لدولة ترسم استراتيجية النهوض بوعي، وتتطلع إلى الخروج من وضعية الفقر، والقضاء على الهشاشة التي تشكل تحديا أمام أمنها واستقرارها السياسي.
المشكلة اليوم باتت في تجسير العلاقة بين الإرادة الملكية والحقل السياسي الذي تنبثق منه الحكومة المؤهلة دستويا وسياسيا؛ لإدارة الرؤية الملكية وتطويرها وتنفيذها
لكن المشكلة اليوم باتت في تجسير العلاقة بين الإرادة الملكية وبين الحقل السياسي الذي تنبثق منه الحكومة المؤهلة دستويا وسياسيا؛ لإدارة الرؤية الملكية وتطويرها وتنفيذها.
نجاح الرؤية الملكية في الامتداد في العمق الإفريقي، لا يرتهن إلى تعليمات يطلب من الحكومة تنفيذها، أو يطلب من مكونات الحقل الحزبي الانخراط فيها، ولا يرتهن لتغيير سياسات بشكل مفاجئ، أو تغيير قيادات سياسية أو حكومية لم تنتبه لهذا التطلع، وإنما تشترط أن تكون تكون النخبة السياسية في قلب هذه الرؤية، فهي الوحيدة القادرة على إزاحة العراقيل الإدارية والقانونية وملاءمة الاعتبارات الاقتصادية والمالية للحاجات التي يمليها هذا التطلع الاستراتيجي، وهي، في البدء وفي المحصلة، مسؤولة عن هذا الإنجاز؛ لأن المحاسبة من الناحية الدستورية والسياسية تطالها هي، وليس أي جهة أخرى.
معنى ذلك، أن إرغام النخب على الانخراط اللاواعي في برامج غير متداول بشأنها، ولا يدري أحد كيف تصنع، وما أهدافها القريبة والبعيدة، لا يمكن أن يحقق المقصود، بل لا يمكن أن يوفر الجاهزية والتعبئة الداخلية لبلوغ هذه التطلعات الكبرى.
متطلبات إنجاح الاستراتيجية، مما يرتبط بديناميات داخلية ذات أبعاد قانونية وإدارية ومسطرية وسياسية واقتصادية ومالية، ينبغي أن تكون النخب السياسية في قلبها
من حسن حظ المغرب، والملكية، أن وجدت نخب سياسية لا تنازعها مثل هذه التطلعات الكبرى، وتعلن ثقتها في القرارات الاستراتيجية للملك، بل تخلي - بإرادتها - مساحة التحرك الاستراتيجي لجهة تحرك الملكية، لكن متطلبات إنجاح الاستراتيجية، مما يرتبط بديناميات داخلية ذات أبعاد قانونية وإدارية ومسطرية وسياسية واقتصادية ومالية، ينبغي أن تكون النخب السياسية في قلبها، وعيا بمنطلقاتها، وتفاصيلها، وأهدافها وإكراهاتها أيضا؛ لأن ذلك وحده هو الكفيل بإنجاح هذه المشاريع.
سبيل ذلك ليس صعبا ولا مستحيلا.. إنه لا يتطلب أكثر من تفعيل آليات التواصل السياسي وتجسير العلاقة المباشرة أو ذات الوساطة، والقطع مع أسلوب تحويل النخب إلى أداة للتنفيذ، وتقنيات الضبط والترويض، وفرض التعليمات الجاهزة والسريعة، التي لا يفهم أحد وقت نزولها.