لم يخرج المشير عبد الفتاح السيسي وحملته الشاملة في سيناء وغيرها من مناطق مصر؛ عن كتالوج الأنظمة العسكرية القمعية التي تعاني فشلا سياسيا وأمنيا واقتصاديا، وتفتقد إلى الغطاء الشعبي، فتلجأ لاصطناع معارك وهمية داخلية أو خارجية، تحقق من خلالها نصرا وهميا أيضا؛ تسعى لتسويقه شعبيا لشحن رصيدها النافذ.
السيسي الذي لم يشارك في أي حرب فعلية من قبل؛ يعلم من خلال ثقافته العسكرية ما للحروب من دور كبير في توحيد الشعوب خلف قيادتها، مهما كانت مستبدة أو فاسدة، ولأنه يتأهب لهزلية انتخابية خلال أسابيع قليلة يدخلها خالي الوفاض من أي إنجاز حقيقي، بل محاطا بسلاسل الفشل في كل المجالات تقريبا، وهو ما جعل أنصاره ينصرفون عنه، فأصبح عاريا من أي غطاء شعبي.. فإنه لم يجد أمامه سبيلا سوى باصطناع هذه الحرب التلفزيونية للهرب من حالة الفشل التي تحاصره، كما فعل الحكم العسكري للأرجنتين في 2 نيسان/ أبريل 1982 هربا من مشاكله الداخلية؛ بشن حرب الفوكلاند، بدعوى تحرير الجزر التي تحتلها بريطانيا، وهي الحرب التي انتهت بهزيمة الحكم العسكري، وكانت سببا في إنهاء ذلك الحكم وعودة الحياة المدنية للأرجنتين.
لا يوجد مصري وطني يبرر الإرهاب ويقبل بوجوده على الأرض المصرية، ولكن لا يعقل أيضا استخدام محاربة الإرهاب لقمع المصريين وقتل أحلامهم في الحرية والكرامة والعدالة، أو استخدام فزاعة الإرهاب لحرق سيناء على أصحابها
لا يوجد مصري وطني يكره أن تنتشر قواتنا المسلحة في ربوع
سيناء كلها، بما فيها المنطقة "ج" التي تحظر اتفاقية كامب ديفيد وجودها فيها، ولكن لا يمكن لمصري وطني أيضا أن يستسيغ قبول المؤسسة العسكرية بتسليم السيسي لجزيرتين استراتيجيتين من سيناء؛ لدولة أخرى.. ولا يوجد مصري وطني يبرر
الإرهاب ويقبل بوجوده على الأرض المصرية، ولكن لا يعقل أيضا استخدام محاربة الإرهاب لقمع المصريين وقتل أحلامهم في الحرية والكرامة والعدالة، أو
استخدام فزاعة الإرهاب لحرق سيناء على أصحابها، وتدمير منازلهم وتهجيرهم قسريا من بيوتهم؛ بهدف إخلاء بعض المناطق تمهيدا لتنفيذ صفقة القرن عليها.
في التاسع والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وفي أعقاب جريمة قتل المصلين في مسجد الروضة بسيناء، أصدر السيسي تكليفا على الهواء للفريق محمد فريد حجازي، رئيس الأركان الجديد، بالقضاء على الإرهاب في سيناء خلال ثلاثة أشهر، باستخدام كل القوة الغاشمة (كررها مرتين). وقبل أيام من انتهاء المهلة، بدأت العمليات الجوية والبحرية والبرية للحملة، التي سبقها تمهيد إعلامي، ولوجيستي عبر رفع درجة الطوارئ في المستشفيات الحكومية ووقف الدراسة في سيناء، وإغلاق الطرق والجسور.. الخ، وحرص السيسي على تصوير الأمر بحسبانه حربا شاملة حقيقية ذات هدف معلن (القضاء على الإرهاب في سيناء والمناطق الأخرى)، وعلى الأرجح سيعلن السيسي عقب انتهاء العمليات انتصاره على الإرهاب، وليس مستبعدا اعتبار هذا اليوم مناسبة وطنية يحتفل بها. لكن قياس نجاح المهمة لن يكون بمجرد كلمات في حفل أسطوري، ولكن بعودة الأمن والاستقرار فعلا على الأرض، وغياب تام للعمليات الإرهابية، كما وعد السيسي، وهو أمر غير مضمون بالمرة، فقد يفاجأ المصريون بعملية إرهابية هنا أو هناك؛ يروح ضحيتها عسكريون أو مدنيون، وتكشف زيف ادعاءات السيسي مجددا.
يمكننا أن نرصد جملة من الأهداف غير المعلنة وراء هذه الحملة، ومن ذلك استغلال هذه العمليات لكسب بعض الأصوات، وقمع أصوات أخرى معارضة بقتلها أو حبسها أو مطاردتها أيا كانت توجهاتها
يفرض السيسي على العالم رواية واحدة للأحداث في سيناء، عبر منع وسائل الإعلام المحلية والأجنبية من متابعة مجريات الحملة من مصادرها الخاصة، ولذلك تفتقر الرواية الرسمية لأي مصداقية، ويصبح من حق الناس أن تتلمس الحقيقة في أي منابر إعلامية يمكن أن تقدم لها روايات أخرى، أو محض تحليل سياسي يحاول قراءة الأحداث على ضوء معطيات محلية وإقليمية ودولية قائمة.
بالتحليل الموضوعي، يمكننا أن نرصد جملة من الأهداف غير المعلنة وراء هذه الحملة، ومن ذلك استغلال هذه العمليات لكسب بعض الأصوات، وقمع أصوات أخرى معارضة بقتلها أو حبسها أو مطاردتها أيا كانت توجهاتها. ودليل ذلك ما حدث مؤخرا بحبس نائب رئيس حزب مصر القوية، والأمين العام لحزب الوسط، ومن قبلهما أمين التنظيم بالحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، وقيادي آخر بتيار الكرامة، وتحويل 12 من قادة الحركة المدنية الديمقراطية الجديدة للنيابة بتهمة الدعوة لمقاطعة الانتخابات، ومن قبل ذلك حبس عشرات الآلاف المناهضين للانقلاب على مدى السنوات الماضية. وقد يستخدم السيسي هذه العمليات العسكرية لوقف هزلية الانتخابات أصلا، بدعوى أن البلاد في حالة حرب، كما قد يستخدمها لتعديل الدستور ومد فترات رئاسته (غير الشرعية)، وإعادة تسويق نفسه لدى عواصم الدعم الإقليمي والدولي بحسبانه رجل المرحلة في مواجهة الإرهاب!!! وأخيرا، قد يستغل السيسي هذه العمليات للخلاص من خصومه أو منافسيه الحاليين أو المحتملين داخل المؤسسة العسكرية؛ بزعم عدم كفاءتهم في عملهم خلال هذه العمليات.. الخ.
لا شك في أن الوضع في سيناء معقد جدا، ولا شك أن المجموعات الإرهابية في سيناء تمثل خطرا على الوطن كله، ولا شك في أن نظام السيسي فشل في مواجهتها خلال السنوات الأربع الماضية، واضطر إلى أن يستعين بطائرات إسرائيلية بدون طيار قامت بأكثر من مئة عملية في سيناء، وفقا
لنيويورك تايمز. ولكن لا شك أيضا في أن محاربة الإرهاب واقتلاع جذوره؛ يكون بتجريف البيئة العفنة التي تنتجه، وهي بيئة الحكم العسكري المستبد الفاسد الذي يفتقد إلى العدالة والنزاهة والحرية والديمقراطية وحرية التعبير، فيدفع الشباب إلى طريق العنف والتطرف، ويدفع المظلوم لأخذ حقه بيده، والمسارعة بالانضمام لتلك التنظيمات الإرهابية التي تساعده على الانتقام لمظلمته.