بالقطع، هناك ما يمكن أن يقال عن عيوب مسودة الدستور الدائر حولها
جدل واسع، وكلامي اللاحق ليس دفاعا عنها، إنما يدور حديثي، كما هي العادة في أغلب
المقالات، حول ما اعتبره ممارسات تضر بالانتقالي، وتشوه أو تعيق تأسيس الدولة.
هناك
مكونات أساسية في المجتمع الليبي تتحفظ على مسودة الدستور، وهي تحفظات مفهومة
ومبررة خاصة التي تتعلق بالشق الفني (الإداري والقانوني)، واعتراضي في مجمله يدور
حول الملاحظات المتعلقة بالمضمون خاصة التي اعتبرها مشوبة بتشدد له تفسيراته عندي.
وأقول
منذ متى تحقق الاتفاق على العقود الاجتماعية زمن الأزمات وبعد ثورة وحروب؟! وهل
يمكن التدليل بعدد من التجارب تم التواصل فيها إلى دستور توافقي يلبي كل مطالب
مكونات المجتمعات الذي عاشت أزمات سياسية واجتماعية حادة وواجهت حروبا ونزاعات ولد
من رحمها دساتير؟!
وبالتالي
فإن النزاع لا يمكن أن ينتهي بإقرار الدستور، ولا يمكن أن يجد فيه الجميع كل أو جل
تطلعاتهم الخاصة، والصحيح أن يقع التوافق المتوازن الذي يخسر فيه كل مكون بعض
مطالبه مقابل مطالب هي أكثر أولوية، على أن يسمح التطور والانتقال بخطوات واثقة
باتجاه الاستقرار وتجذير الديمقراطية بمزيد من التوافق ومزيد من الانفتاح على كافة
الحقوق لكافة المكونات لدسترتها أو تقنينها.
المجتمع
الليبي متعدد بالنظر إلى تركيبته الاجتماعية ويلقي الاتساع الجغرافي بظلاله على
التركيبة الإنتربولوجية، وعاش ردحا من الزمن مكبوتا الأمر الذي راكم المظالم في
وجدان مكوناته المتعددة، لتجد لها متسعا في التعبير بعد ثورة فبراير إلى المستوى
الذي أصبحت هناك فورة نزوع جهوي وقبلي ومناطقي وعرقي أعاقت الانتقال الديمقراطي
وتأسيس الدولة، وهذا وضع ينبغي النظر إليه ونحن نتجادل حول حقوقنا في الدستور.
أيضا
من الملاحظات التي اعتبرها جوهرية فيما يتعلق بالجدل الدائر حول مسودة الدستور هي
خلل التعامل مع نقاط الخلاف وأسباب النزاع، وأشير هنا إلى الاضطراب في وسائل
المعالجة.
فمن
ناحية ينظر إلى الوضع الليبي بأنه استثنائي لا وجود للدولة ومؤسساتها فيه، لتعود
الأطراف المتنازعة وتتعامل بمنطق الاستقرار والمؤسساتية فتلجأ للقضاء الذي لا
سلطان حقيقي له اليوم، ثم تتحلل من أحكامه بحجج عدة في مقدمتها غياب الشفافية وهيمنة
المليشيات.
لقد
كان منطق المغالبة قاهرا، في ظل نزوع حاد، فالهيئة لم تتشكل وفق مقاربة ديمقراطية
بسيطة، بل تأسست على مبدأ التوافق بحيث انتخب أعضاؤها وفق محاصصة جهوية ساوت بين
الأقاليم وتجاوزت التوزيع السكاني، ومع كل ذلك ظل منطق الرفض سائدا بحجة جنوح المسودة
لصالح مكون جغرافي بعينه.
يمكن
أن أفهم لماذا يتشنج البعض في رفضهم للمسودة خاصة أولئك الأقل تعليما والذين لم
ينفتحوا على الفكر الديمقراطي وضرورته لتحقيق الاستقرار والتنمية وكيفية إنزاله في
الأزمات.
لكني
أقف مذهولا أمام مواقف النخبة المتصدرة لمنابر الفكر والتوعية بمسائل الانتقال
الديمقراطي ومقاربات تأسيس الدولة المدنية.
لقد
قرأت لعدد من أنصار الديمقراطية والدولة المدنية الذين أطلقوا على مسودة الدستور
"المسودة المركزية" أو "الطرابلسية"، بل كرر عدد منهم إطلاق
مسودة "كشلاف" عليها نسبة إلى عضو الهيئة المنتخب سالم كشلاف.
ولهؤلاء
أقول أنتم أنصار المؤسساتية والديمقراطية والداعمين لها، وتدركون أن هيئة الدستور
منتخبة وبشرط أنصار الطرح الفيدرالي الذين نجحوا في تمرير مبدأ العضوية بالتساوي
بين الأقاليم الثلاث، وأصبح مقر الهيئة مدينة البيضاء، فهل يقبل، بعد هذا، وصف
المسودة بأنها طرابلسية أو "كشلافية"؟!
إذا
نجح الممثلون للمنطقة الغربية في الهيئة، أو أفلح كشلاف في تمرير أفكاره عن
الدستور وسط العشرات من أعضاء الهيئة المنتخبين فحق له ذلك، والخطأ ليس خطئه مادام
ملتزما بالأسلوب الديمقراطي ولم يلجأ للقوة لفرض إرادته، وكيف يلجأ
"غرباوي" لفرض توجهاته مهما كانت منحازة لإقليمه بالقوة وفي قلب
"برقة"؟!
يا
إخوة من الخطير جدا أن نقبل بالخيار الديمقراطي وننجح في فرض شروطنا في طبيعة
إسقاطه على واقعنا ثم نرفض نتائجه إذا لم تلبي تطلعاتنا.
لقد
كان هذا أكبر الضربات التي تلقاها مشروع الانتقال الديمقراطي بعد الثورة في مرحلة
المجلس الانتقالي ثم المؤتمر الوطني ثم البرلمان، خاصة وأن هذا يأتي من نخبة
متعلمة لها مكانتها في فضاء الفكر أو المعرفة.
إن
تكرار مثل هذه الممارسات تضرب الانتقال في مقتل وتكرس خيارات تشوه المناخ
الديمقراطي بشكل يستحيل معه استعادة روح الديمقراطية وجوهرها وتطبيقها بشكل سليم،
وهذا ما يمثل أكبر مخاوفي.