مصادري محدودة، وأعجز عن
الاطلاع على أمعاء الحكومة. لكني أسمع صدى أمغاض كثيرة تجعلها تتململ تململا مقلقا،
منذرا بعواصف نتمنى أن تقف عند الغازات الطيارة، فلا نغرق في أكثر من ذلك. بود
المرء أن يتوقف هنا، فلا يضيره ما يضير حكومتنا المبجلة. إنما نحن ملزمون بالخضوع لتقلبات
معدة الحكومة، فقد قيل لنا إن الثورة الدائمة هوس طفولي، فخضعنا، لكن مرض الحكومات
يصيب شعوبها. وها نحن نتعقل فعل الحكومة عسى أن نصيب في القراءة دون معطيات من
الكواليس، فلا نذهب في موجة صراع بين مكونات نظام يتهاوى فتقع أنقاضه في طريق
مستقبلنا. وما طلبنا معجزات، وإنما هو مطلب العيش بأخف الأضرار.
النقابة تأمر رئيس الحكومة
يحدث هذا في
تونس التي
تحتكم إلى مثل شعبي قديم يصف تنمر التابع على المتبوع، فالعزري (الخادم) أقوى من
سيده. النقابة تعطي نفسها الحق في تعديل الحكومات. لقد فازت بسابقة منذ سنة،
فأسقطت وزير التربية والتعليم. لقد كان لها قبل ذلك "شرف" قيادة الحوار
الوطني، وهي المنفوخة بجائزة نوبل للسلام.
يظهر رئيس الحكومة لوسائل
الإعلام تنطعا أمام النقابة، ولكن هل يملك أن يتمرد عليها فعلا؟ تمنّ النقابة على
الحكومة أنها سبب في مجيئها واستقرارها، وأنها قادرة في أية لحظة أن تقلب عليها
الشارع. لقد فعلت ذلك سابقا بحكومات بدت أقوى، ولكن انتهى الأمر بكل الطبقة
السياسة أن خضعت للنقابة وهي تنافق النقابة الآن مدعية الحرص على سلامة المسار.
تعرف النقابة أن تضع الجميع
في زاوية ضيقة، فإما مطالبها بما في ذلك تغيير الحكومة، أو تهديد المسار برمته.
الحرص على استمرار المسار يصبح حجة خضوع للنقابة، فنكتشف أن الحاكم الحقيقي هو
النقابة وليس الحكومة، لذلك تجيز لنفسها الوقوف موقف الآمر من رئيس الحكومة.
لا يهم هنا إن كانت البدائل
منحطة، فالحوار الوطني أفضى إلى تمكين رجل بلا موهبة ولا كاريزما من قيادة الحكومة
لمدة سنة (المهدي جمعة)، فلما انتهت مدته تبينت فظاعات ما ارتكب في حق البلد من
صفقات غير مدروسة، ومن تداين غير محسوب، ومن عقود تحت الطاولة. وانتهت إقالة وزير
التربية بتعيين وزير ابن علي الذي فشل زمن بن علي، ويعيد إنتاج الآن فشله بحماية
النقابة.
الرئيس يكره رئيس الحكومة
الرئيس فرض رئيس الحكومة
الحالي (يوسف الشاهد) وأسقط سلفه بلا حجة بينة. يبدو (أقول يبدو) أنه كان يريد
خاتما في إصبعه. ويبدو (أكرر يبدو) أن رئيس الحكومة شم صنانه (وهي عبارة شعبية
تعني أنه كبر في وقت قصير)، إذ تذهب مصادر كثيرة إلى أن الفتى الأخضر العينين يريد
أن يكون رئيسا، وأنه يعمل على فرض نفسه رقما في الساحة لسنة 2019. لذلك عقد
تحالفات على غير هوى الرئيس، فعادت إلى الأذهان صراعات قديمة بين مناطق النفوذ
الجهوي (العاصمة وحضرها ورثة البايات الحسينية) والساحل ورثة بورقيبة. يبدو صراعا
من زمن فات، لكنه يتجدد (أو لا يموت وهو الأصح)؛ لأن المال قوام السياسة والنفوذ
لم يخرج من أيدي هذين اللوبيين المتنفذين
منذ قرنين. جاء الشاهد من حضر العاصمة، لكنه عقد تحالفات مع الساحل، فسار سيرة
الحبيب الصيد الذي أقيل لهذا السبب وإن لم يعلن. الرئيس يبحث عن مقتل لرئيس حكومته
الذي يبحث عن منفذ للبقاء والقوة والاستعداد، ونحن نسمع ذلك الدوي في أمعاء
الطرفين وننتظر الأسوأ.
قامت
النقابات الأمنية
بغزوة المحكمة، وهي تسمية ساخرة لتمرد مسلح، فظهر الشاهد ضعيفا أمام وزير الداخلية
الذي لم يؤدب منظوريه. تم تغيير قيادات أمنية بين ليلتي 3 و4 آذار/ مارس. وتداولت
المواقع إشاعات إقالة الوزير، ولكن لا يقين حتى اللحظة، ولا علم بخلفية ما جرى سوى
تأويلات أن الغزوة تندرج ضمن هذا الصراع. لماذا يضعف وزير الداخلية رئيس حكومته،
وكلاهما ساحلي الهوى؟ نعجز عن الفهم لغياب المعطيات. لمصلحة من تعمل النقابات
الأمنية المتنمرة؟ سؤال أسهل من إجابته استيعاب جدي رحمه الله لدروس الفيزياء
النووية.
حزب النهضة لا يريد أن يموت
حزب النهضة يسير بالسرعة
الخامسة. كان عليه أن يموت أو أن يصوم الدهر عن المشاركة، لكنه لا يفعل. لقد تقدم
إلى
الانتخابات البلدية في كل الدوائر بقوائم مستوفاة الشروط الشكلية، وقد أعلن
البدء في تدريب عناصره (مرشحيه) على تقنيات الانتخابات وبرامج التسيير في حالة
الفوز، بينما يعاني منافسوه هوانا عجيبا. يكفي أن نشير إلى هوان السيد مهدي جمعة (رئيس
الحكومة إياه) الذي يعلن برنامجا وحيدا، و هو إسقاط حزب النهضة في البلديات، وقد
تقدم بأربع قوائم؛ سقطت جميعها لعدم انضباطها لشروط الترشح الشكلية.
هل يشكل هذا سببا لأمغاص
الحكومة؟ نعم، فاحتمال أن تأتي النهضة الدولة من أسافلها وارد. هذا الاحتمال
المرعب لمكونات المنظومة القديمة ولكثير من أطياف المعارضة يعني تفككا نهائيا
لمركز النفوذ. لقد كشف حزب النهضة عن قدرة كبيرة على الصبر والمطاولة، وهو يعتزم
الحكم المحلي بالتدريج. لكن عوض مواجهته ككتلة لا تجد المنظومة بين يديها سلاحا
سوى بث احتمال الفوضى. لكن الفوضى لم تقع بعد، رغم تمرد النقابات الأمنية على
القضاء والحكومة والدولة عامة.
هل تكون الصراعات القائمة
الآن هي حشرجة الموت التي تصدر عن المنظومة؟ لقد ذهب البعض إلى أن زيارة وزير
الداخلية إلى المملكة السعودية تأتي في إطار الاستعداد لسيناريو الجزائر بعد
انتصار الفيس، لكن من يملك أن يبدأ الفوضى بعد تبين النتائج؟ مجرد طرح السؤال ينقل
الأمغاص إلى أمعاء الشارع المسكين الذي لا يملك لأمره شيئا في هذه الصراعات.
هل أروّج لتفاؤل زائف؟
يطيب لي أن أبث فكرة
متفائلة بأن المنظومة تنهار، لكني لا أصدق ذلك. أن صراعاتها الحالية علامة ثقة في
أوراقها الخفية أمام تقدم أي حزب في البلديات. إنها تبدو غير مشغولة بالنتيجة،
كأنها ضمنت شيئا ما، أو كأنها تعرف أن لن تكون هناك انتخابات رغم الجهد المبذول في
الترشيح الآن. كتبت سابقا عن عدم يقيني بإجراء الانتخابات في موعدها، ولا زلت أشكك،
فعمل الهيئة والأحزاب ليس ضمانة كافية فهي ضعيفة أمام
احتمال الفوضى. سيكون موقفها أمام الفوضى التي لا تحتاج إلى عدد كبير في الشارع
مثل موقفها أمام النقابة التي تحكمها مجموعات فئوية لا تؤمن بالدولة ولا
بالديمقراطية، وتضع الجميع في زاوية (النقابة أو الدولة)، فينتهي الجميع إلى دولة
النقابة.
يجري الآن عراك إعلامي بين
النقابة ورئيس الحكومة ظاهره نقد أداء الحكومة وباطنه وضع شروط تحالف لسنة 2019.
هذا التحالف ممكن ووارد وله أهداف وله أسلحة. بعض الأهداف تحجيم حزب النهضة
المغرور (وحبذا القضاء عليه)، وأهم الأسلحة إعادة بناء المنظومة بناء جديدا، لكن
طبقا لهوى النقابة والتيار السياسي الذي يسيطر على مفاصلها.
في أول سنوات الستين، كان
بورقيبة قد كشف عجزه المطلق عن بناء الدولة، فلم يكن له إلا الخطاب الجهوري،
فتقدمت النقابة وفرضت برنامجها وأشخاصها وركبت تحالفا عجيبا يمنح بورقيبة زعامة
جميلة، ويمنح النقابة سلطة على الإدارة، وقد حكمت به من وراء كرسي الزعيم المغرم
بلون عينيه في التلفزة الجديدة. في حالات الضعف تتسرب النقابة، والدولة الآن في
أضعف حالاتها، والنقابة تتقدم من موقع إلقاء الأوامر لرئيس الحكومة المغرم بلون
عينيه. لقد أفضت أمغاص الستينيات إلى سلح كثير ونوشك أن نغرق ثانية.