أحتفظ بتشاؤمي إزاء
احتمال إنجاز الانتخابات في
تونس، ولن أسلم بأنها أنجزت إلا يوم إعلان النتائج، فأنا مصاب (والحمد لله) بعدم الثقة في النظام القديم وأدواته، بما في ذلك أذرعه اليسارية التي تعلن المعارضة وتشتغل في الخطوط الخلفية للمعارضة، لكني رغم ذلك سأكتب عن احتمالات التغيير المنتظرة بعد إنجازها (إن أنجزت).
من هذه النتائج التي نتوقع ولا نجزم أن تكون: انكشاف الحجم الحقيقي للتيارات السياسية والأحزاب على الأرض، وتمكن الناس من قياس وزنها الفعلي، وهو القياس الذي سيسهم لاحقا في تعديل الساحة السياسية و"تطهيرها" من غث كثير صنع في بلاتوهات التلفزة وفي السوشيال ميديا، دون أن تكون له أرجل على الأرض يسير بها.
سأحاول أن أستشرف المشهد بعد
الانتخابات على ضوء نتائجها المحتملة، وفي أفق انتخابات 2019 التشريعية.
اختبار خطاب الحداثة وعمقه
في المدن الصغيرة والمتوسطة، سيسفر التجمع (حزب ابن علي) عن وجهه دون المكياج الندائي الحداثي التقدمي الذي تغطي به في المدن الكبيرة في انتخابات 2014. هناك لن يكون خطاب تهديد الإسلاميين للحداثة ولحقوق المرأة (كعنوان تونسي لها) مجديا انتخابيا، بل إن العكس سيكون أقرب إلى التحقق والتأثير. فقاعدة التجمع هي قاعدة محافظة وتظهر تدينها للعامة، وهي تلاحق قواعد
حزب النهضة ولا تدركها في الصفوف الأولى للصلاة. لذلك، فالخطاب الدعائي سيكون محافظا، ولن تجد المليون امرأة صندوقا يضعن فيها اختيارهن. ربما نسأل لاحقا أين ذهبن؛ لأننا سنسأل لاحقا عن مصداقية خطاب الحداثة والتقدمية وجدواه في الصندوق خارج الاستقطاب الهووي (حداثة رديف تقدمية ضد تدين رديف رجعية) الذي استعمل في ما مضى. سنعيد اكتشاف الوجه المحافظ للنداء (التجمع)، وسنتيقن أن خطاب الحداثة والتقدمية هو خطاب غير ذي مصداقية وغير منتج انتخابيا؛ عندما يتعلق الأمر بتحصيل مواقع ذات مردود مادي.
ستنهي هذه الانتخابات التي سيجري أغلبها وسط جمهور محافظ زيف ادعاءات قاعدة حزب ابن علي وريث بورقيبة و(البورقيبية)، أي مسيرة تحديث تونسي قائمة على محاربة الرجعية الدينية.
سنرى سباقا محموما على تعمير (أو احتلال) الصفوف الأولى في المساجد؛ طمعا في التبرؤ من صورة الحداثي الراعي للتفسخ. لقد رأينا مشاهد من هذا الوجه المتدين للتجمعيين أياما الحملات على الإسلاميين في أول التسعينات. في مواقع الاحتكاك المباشر واليومي بالإسلاميين، تعرف العامة التدين الانتخابي، لذلك لن تصدقه، وستختار على أسس أخرى؛ منها أن التجمعي لا يزال يحتكر مصادر القوة وأنه غير جدير بالثقة. وإذا لم يمكن تحجيمه من عل فإنه يمكن تحجيمه من أسفل. بقطع رجليه في البلديات. لكن من سيحل مكانه فعلا؟
هل سيكون حزب النهضة بديلا للتجمع خارج المدن الكبرى؟
يطمع حزب
النهضة إلى ذلك معتمدا على علاقات عناصره المباشرة بالناس. لكن عليه أن يواجه قبل ذلك حقيقة مهمة أن آلة الدعاية التجمعية (اليسارية) قد دمرت صورة النهضاوي النظيف اليد. لقد نشرت هذه الدعاية وعلى نطاق واسع، وكرست صورة للنهضوي الذي استغنى من السلطة، فيجد كثير من الناس (رغم الاحتكاك المباشر بعناصر حزب النهضة) صعوبة في تصديق أن أولاد النهضة أبرياء من الفساد. ولذلك، فسيخوضون حملتهم لا لتقديم برامج أو أفكار بل للدفاع عن سمعتهم السياسية والأخلاقية أولا، وسيجدون حاجة إلى إعادة تسويق صورة النهضوي المتدين، بما سيوقع كثيرين في الخلط بين صورة الحزب المدني المدعاة وصورة حزب المتدينين (الأتقياء) أو الحزب الديني. ولن يكون هذا مفيدا في الصندوق. ولن يأخذ حزب النهضة من قواعد التجمع ولا من الراغبين في قطع دابر التجمع.. هنا سنرى الحجم الحقيقي للنهضة والحجم الفعلي للتجمع بلا أية مساحيق.
من هذه الزاوية، نعتقد أن الجمهور الناخب سيجد صعوبة في الاختيار وسيكون الاتجاه الغالب هو البحث عن
بديل خارج النداء (التجمع) وعن النهضة، وسيبحث عن بديل.. لكن هل سيجد البديل؟
اليسار ليس البديل الشعبي
في الرواية (في الخيال) الانتخابات المحلية هي انتخابات اليسار (بما في ذلك التيار القومي)، لكن في الواقع التونسي اليسار هو أبعد الفرق السياسية عن الشعب وعن مطالبه. لا لأنه يجهلها، بل لأنه لم يشتغل وسط الناس على بلورتها وتقديم نفسه لهم على أساس حاجاتهم الاجتماعية. ونعتقد أن الانتخابات البلدية لسنة 2018 وما سيتبعها من انتخابات محلية ستكون قاصمة الظهر لليسار التونسي.
لقد داوم اليسار على معركة الهوية حتى صارت هويته السياسية. ولم يفلح أبدا في الخروج من زاوية أنه لا يحارب الحزب الديني فقط، بل يحارب التدين ويجعل من الحداثة نقيضا للوجدان الشعبي المحافظ. وفي سنوات الحرية الإعلامية، شوهد اليساري التونسي يدافع عن أشد القضايا تناقضا مع هذا الوجدان المحافظ، ولم يظهر أي عطف عليه. وسيكون لذلك ثمنه.. إن صورة اليساري خارج منتديات النخبة والأكاديميات هي ما يظهر في سلوك أفراده اليومية، أي صورة اليساري العربيد أكثر من اليساري المتصالح مع التدين الشعبي، وأحكام العوام على السلوك الظاهر قاسية جدا في الصندوق.
أنا أقرأ هنا احتمالات التأثير على الصندوق، ولا أدعو اليساري إلى منافقة الوجدان الشعبي، ولكن الانتخابات المحلية ستكون فرصة لتصويت عقابي لليسار الذي دافع عن المتعريات وعن المشككين في قدسية النص الديني. لكن ستكون فرصة متجددة لطرح السؤال الذي لم يطرحه اليسار التونسي أبدا: كيف تكون يساريا اجتماعيا دون أن تصطدم أو تعادي وجدانا شعبيا متدينا ومحافظا؟ سيكون على يساري عاقل أن يطرح سؤالا تاريخيا: من أين كان يجب أن يبدا اليسار التونسي ليكون يسارا اجتماعيا متصالحا مع وجدان شعب مسلم؟ لكن سيكون الوقت قد فات نهائيا بعد أيار/ مايو 2018؛ لأن ثمن يسارية التونسي الخائض دوما في معركة الهوية كمعركة وحيدة سيكون مدمرا، ولن يمكن لهذا الجيل اليساري أن يعود إلى تأسيس يسارية جديدة.
ونضيف إلى ذلك أمرين مهمين، الأول أن التجمع المحافظ في المدن الصغرى سيتهرب من تحمل كلفة التحالف مع يسار (قابل للتكفير)، وسينأى بنفسه عن تزيين قوائمه بأسماء يسارية (محلية)، وإن لم يعلن اليسار بعد أي شكل من التحالف مع قوائم التجمع (النداء).
والثاني أن استعمال اليسار للنقابة سياسيا خلال سنوات الثورة سيحاسب انتخابيا أيضا (في البلديات أولا وفي التشريعيات لاحقا). لقد ارتبط في وجدان الكثيرين؛ أن النقابة هي اليسار واليسار هو النقابة، وأن حركة الإضرابات الفوضوية هي فعل سياسي لا نقابيا، وقد أضرت بكثيرين، وسيكون الصندوق هنا وسيلة عقاب للنقابات أي لليسار.
حقيقة ما بعد البلديات 2018
نلخص المشهد في خطوط عامة:
- حزب النهضة بحجمه الحقيقي يواجه أولا كلفة تحالفه مع التجمع (النداء) منذ 2014، رغم ما أظهره من انفتاح على فئات مستقلة من خارجه..
- حزب التجمع بوجهه المحافظ وبشبكة المصالح التي لم يفرط فيها، رغم تظاهره بالموت منذ الثورة..
- يسار تائه عن احتلال موقع البديل الاجتماعي الحقيقي، مغرق (رغم كل الفشل) في معركته الأزلية ضد الإسلاميين..
- شعب تائه يبحث عن بديل اجتماعي حقيقي ولا يجده، وهذا هو الفراغ الكبير الذي لا يبدو أن أحدا سيعمره في المدى المنظور. هنا سيقول كثيرون، ومنهم الرئيس المرزوقي: كان يمكن أن.. ولكن.
الضارة النافعة أن المشهد بعد أيار/ مايو 2018 صار أقل غموضا، والبديل المطلوب واضح لمن يريد العمل على تأسيس فعلي لديمقراطية مباشرة، بعيدا عن معارك التونسيين التقليدية التي جرت حتى الآن في مقاهي العاصمة.. هذا إن جرت الانتخابات.