عاد اللجوء إلى التكفير مرة أخرى في تونس. ونظرا لاغتيال شخصيتين بارزتين من السياسيين بعد أن طالتهما هذه التهمة، فقد اقترن التكفير في الأذهان بالقتل والتصفية الجسدية، وهو ما جعل الدستور يتضمن تجريما لذلك. ولهذا تعالت الأصوات هذه الأيام؛ محذرة من استعمال هذا السلاح الخطير والمهدد للسلم الأهلي.
هذا السلاح يستخرج من مخبئه كلما اعتقد البعض بأنه قد آن الأوان للتغيير باليد؛ اعتقادا منهم بأن ذلك واجب من الواجبات الدينية الشرعية، أو أن يُطرح نقاش في المجتمع حول مسألة لها صلة وثيقة بالدين عموما وبأحد الأحكام والنصوص المرجعية. وكلما ارتفع سقف الجدل، تبدأ الدماء تغلي في رؤوس البعض، وفجأة تنطلق الألسن والأقلام في التهديد والوعيد. وبدل أن يستمر الحوار عقلانيا هادئا ومعتمدا على الحجة مقابل الحجة، تراه ينحرف عن طريقه، ويتوهم البعض بأن النخبة قد انقسمت إلى معسكرين، أحدهما متهم بالزندقة والكفر والمس بالعقيدة والشريعة والأخلاق، مقابل معسكر المؤمنين المدافعين عن ثوابت الدين وأحكامه.. عندها تتراجع الحكمة إلى أن تقترب من درجة الصفر، ويصبح الخطر بمختلف أشكاله يحدق بالأفراد والمجتمع.
الصراع لن يكون سهلا، خاصة في ظل الأوضاع الراهنة التي تطغى عليها المطالب الاقتصادية والاجتماعية، وتسود البلاد موجة من الشك والغموض
يستمر الجدل في تونس حول مسألة
المساواة في الإرث منذ خطاب الرئيس الباجي قايد السبسي، يوم 13 آب/ أغسطس الماضي. لم تكمل اللجنة التي كلفها رئيس الدولة بإعداد تقرير عن الحريات الفردية والمساواة، لكن بعض التسريبات التي راجعت مؤخرا، والتي لم تكن دقيقة، أعطت فرصة للإعلام لكي يوسع من دائرة الجدل، ويدفع ببعض الأوساط إلى البدء في الحرب الكلامية قبل أن تتضح الصورة، وقبل أن يطلع الرأي العام على فحوى التوصيات ونوعية الخطوات التي يمكن أن يقدم عليها رئيس الجمهورية.
لا شك في أن الصراع لن يكون سهلا، خاصة في ظل الأوضاع الراهنة التي تطغى عليها المطالب الاقتصادية والاجتماعية، وتسود البلاد موجة من الشك والغموض، وهو ما جعل الرأي العام غير متقبل حاليا للانشغال بمسائل يراها البعض جزئية،
مثل المهر والنفقة ولقب الأم، في حين أن الأسعار قد بلغت أرقاما قياسية، والبطالة لا تزال عالية جدا،
والدينار يواصل هبوطه بنسق سريع. هذا الأمر جعل البعض يعتقد بأن الهدف الحقيقي من المبادرة الرئاسية الخاصة بالحريات الفردية هو "إشغال التونسيين بمسائل بعيدة عن اهتماماتهم حتى يلهيهم عن فشل الحكومة في توفير الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لمئات الآلاف من الأشخاص".
طبعا هذا التأويل خاطئا، لكن ما يخشى حاليا هو أن تفشل النخب في توفير المناخ الملائم للحوار حول مسائل حقوقية ودينية معقدة، ولا يمكن أن يحسمها طرف على حساب طرف آخر. فالغلبة ليست الأسلوب الأمثل لحسم المسائل المجتمعية ذات الحساسية العالية.
الفوارق عديدة بين مرحلة بورقيبة وبين مرحلة ما بعد الثورة.. في مطلع مرحلة الاستقلال كان القرار السياسي أحاديا بامتياز، وكانت زعامة بورقيبة عالية جدا، ولم تكن هناك معارضة قوية وفاعلة، خاصة بعد أن اتخذ الرئيس قرارا مفاجئا بحل جامع الزيتونة وتهميش أحزاب المعارضة، وافتكاك جميع دواليب الدولة، ومصادرة حرية الصحافة. وفي تلك الظروف الاستثنائية، نجح الرئيس التونسي في إنفاذ قراراته الجريئة، وفي مقدمتها مجلة الأحوال الشخصية التي غيرت بنية المجتمع التونسية بشكل جذري.
التكفير لن يؤدي إلا إلى التفجير، والتفجير لا يخدم إلا الإرهاب وأعداء الثورة والانتقال الديمقراطي
اليوم يجد قايد السبسي نفسه أمام وضع مختلف؛ وضع يستطيع الجميع فيه أن يعبروا عن آرائهم بكل أريحية. فالأوساط المحافظة لا تزال قوية وذات ثقل شعبي، كما أن البرلمان ليس موحدا، وموازين القوى متقاربة إلى حد ما. كما أن شعبية الحزب الحاكم ليست على أفضل حالها، بعد سلسلة
الأزمات الداخلية التي مر بها منذ سنتين على الأقل. ولا تزال حركة النهضة في وضع غير مريح، تنتظر القرارات التي سيعلنها السبسي قريبا، ولم تحسم أمرها بوضوح، ولم تحدد الموقف الذي ستعتمد عليه لمواجهة هذه "الورطة السياسية".
لكن مهما تكن التحديات التي تحف بمسألة تحصين الحريات الفردية وتعزيز المساواة بين الجنسين، فإن التكفير لن يؤدي إلا إلى التفجير، والتفجير لا يخدم إلا الإرهاب وأعداء الثورة والانتقال الديمقراطي. كما أن التكفير يخلط الأوراق، ويشل التفكير، ولا يسمح بتطوير المفاهيم والتشريعات، ويهدد الحريات، ويقطع الطريق أمام العقلانية والبحث العلمي وتجاوز المفاهيم الموروثة، ويحول دون التوصل إلى توافقات بين مختلف مكونات المجتمع والنخبة. قد يلوم البعض شريحة من المثقفين الذين يخاطبون العموم بلغة خاصة الخاصة، وهذا خلل في منهج الحوار وأساليبه، غير أن الجرأة مطلوبة في كل منعطف تاريخي. ومن لا يتحمل المخالف له لا يحق له أن يصادر حرية غيره.