قضايا وآراء

مسيرات العودة الكبرى في ضوء المقاصد وفقه السنن

1300x600

يعتزم الشعب الفلسطيني في الداخل بمؤازرة إخوانهم المسلمين - فلسطينيين وغيرهم - في الخارج إقامة فعاليات وتسيير مظاهرات تبدأ يوم الأرض 30 مارس (آذار) 2018م، وتنتهي في ذكرى يوم النكبة 15 مايو (أيار)، وبدأوا في الحشد لها والإعلان عنها، وأطلقوا عليها اسم: (العودة الكبرى) إشارة إلى حق اللاجئين في الداخل والخارج الفلسطيني في العودة إلى مواطنهم، وهو عمل نوعي؛ إذ لا يعبر عن رد فعل وإن جاء تفاعلا مع "صفقة القرن" بل استعادة كذلك لزمام المبادرة وتحولهم إلى طرف يؤثر في الواقع ويصنع الحدث.

أهداف مسيرات العودة الكبرى

تشكل هذه المسيرة ردا شعبيا فلسطينيا على صفقة القرن وقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إعلان مدينة القدس عاصمة للصهاينة، ومسيرة العودة هي خطوة عملية أولى لمواجهة مسلسل تصفية القضية الفلسطينية التي تتسارع في ظل ما يصفه الفلسطينيون بالتواطؤ الدولي، وتم الاتفاق على أن يكون يوم الأرض هو موعد انطلاق المسيرات من مختلف مناطق قطاع غزة باتجاه الحدود، في محاولة لاختراقها، وتمت صياغة رؤية متكاملة لشكل الفعاليات وطبيعتها، التي تضمنت إقامة خيام للاجئين على طول الشريط الحدودي والاشتباك مع الجنود الصهاينة بوسائل سلمية، وتجاوز الحدود هو الهدف الأول للمتظاهرين، والمطالبة بتطبيق قرارات "الشرعية الدولية" وعلى رأسها قرار 194، الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة، وجاء في الفقرة 11 منه بأن الجمعية العامة "تقرر وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم، والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم، وكذلك عن كل فقدان أو خسارة أو ضرر للممتلكات، بحيث يعود الشيء إلى أصله وفقاً لمبادئ القانون الدولي والعدالة، وبحيث يعوّض عن ذلك الفقدان أو الخسارة أو الضرر من قبل الحكومات أو السلطات المسؤولة".

اتساق "العودة الكبرى" مع المقاصد العامة للشريعة:

يأتي هذا العمل متسقا مع مقاصد الشريعة الإسلامية العامة التي تقضي بتحقيق العدالة، ورد الحقوق لأصحابها، وحفظ الأرض والعرض، وحفظ المال والممتلكات.

فإن الإصرار على أخذ الحقوق وردها لأهلها من أعظم مقررات الشريعة الإسلامية ومقاصدها التي جاءت بإرساء العدل وتحقيق الأمن، والعمل على تعزيز فريضة التضامن والأخوة، والقيام بالقسط وهو مقصد الرسالات جميعا: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ .. [الحديد: 25].

وإن هذا العمل يتفق مع كلية حفظ المال والممتلكات التي أمر الشرع الشريف بحفظها بل أباح الموت دونها، وعدَّ ذلك شهادة في سبيل الله تعالى: (مَنْ قُتِلَ دُونَ مالِهِ فهوَ شَهيدٌ . ومَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فهوَ شَهيدٌ . ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ أهلِهِ فهوَ شَهيدٌ). [رواه الترمذي بإسناد حسن، وأبو داود، كلاهما عن سعيد بن زيد].

وإن تضامن المسلمين مع هذا العمل يأتي لتحقيق روح الأخوة، وتعزيز مشاعر الوحدة بين المسلمين، وكلها مقاصد كبرى للإسلام قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ  [الحجرات: 10]. وقال صلى الله عليه وسلم: المسلمُ أخو المسلمِ، لا يظلِمُه ولا يُسلِمُه...). [أخرجه البخاروي ومسلم بسندهما عن عبد الله بن عمر]. وفي الحديثِ: التَّعريفُ بحقِّ المسلمِ على أخيه وما يَجِبُ عليه تُجاهَه، وقد قال ابن حزم: (من تركه يجوع ويعرى – وهو قادر على إطعامه وكسوته – فقد أسلمه). وإذا كان هذا في الجوع والعري فكيف بتركه لعدو غاشم يفسد الأرض، ويهلك الحرث والنسل، وينتهك الأرض والعرض؟!

ويأتي هذا العمل كذلك اتساقا مع الفطرة والعقل والمنطق، وتجاوب مع ما تواضعت عليه البشرية واتفقت عليه الإنسانية في كل عصورها، فأصحاب الحقوق أولى بها، ولن يموت حق وراءه مطالب.

عمل يعزز مقاصد الجهاد:

شرع الله تعالى الجهاد في سبيله، وجعله فريضة محكمة ماضية إلى يوم القيامة، وأناط به عز المسلمين وشرفهم، (إذا تبايعتُم بالعِينةِ، وأخذتُم أذنابَ البقرِ، ورضِيتُم بالزَّرعِ، وتركتُمُ الجهادَ سلَّط اللهُ عليكم ذُلًّا، لا يَنزِعُه حتى ترجِعوا إلى دِينِكم) [أخرجه أبو داود بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر].

ومن مقاصد الجهاد صد العدوان، وتحرير الأرض وحفظ الأعراض ومنع الفتنة والفساد، قال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ  فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة: 193].
وقد ذهب الإمام ابن تيمية إلى أنه لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفع العدو لإفساده الدين والدنيا معا، قال: (وَأَمَّا قِتَالُ الدَّفْعِ فَهُوَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ دَفْعِ الصَّائِلِ عَنْ الْحُرْمَةِ وَالدِّينِ فَوَاجِبٌ إجْمَاعًا، فَالْعَدُوُّ الصَّائِلُ الَّذِي يُفْسِدُ الدِّينَ وَالدُّنْيَا لَا شَيْءَ أَوْجَبَ بَعْدَ الْإِيمَانِ مِنْ دَفْعِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ شَرْطٌ بَلْ يُدْفَعُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ) [الفتاوى الكبرى: 5/ 538].

ولا تتحقق مقاصد الجهاد إلا بدفع العدو؛ ولهذا أوجب الشرع على أهل المحلة دفعه، فإن تحققت بهم الكفاية وإلا فإنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب، قال ابن تيمية: (وَإِذَا دَخَلَ الْعَدُوُّ بِلَادَ الْإِسْلَامِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَجِبُ دَفْعُهُ عَلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ إذْ بِلَادُ الْإِسْلَامِ كُلُّهَا بِمَنْزِلَةِ الْبَلْدَةِ الْوَاحِدَةِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ النَّفِيرُ إلَيْهِ بِلَا إذْنِ وَالِدٍ وَلَا غَرِيمٍ) [الفتاوى الكبرى: 5/ 539].

ويجب على الأمة كلها أن تهتم بهذا الحدث الكبير (مسيرات العودة الكبرى)، ويرفعوا لواءه؛ لأن الصهاينة هم الأخطر على الأمة، وإذا زال هذا الكيان السرطاني الإحلالي فسوف تُشفى الأمة من أمراض متنوعة، وتَسلم من علل كثيرة، وسوف نعصم بذلك دماء وأعراضا وأرواحا لا حصر لها؛ ولهذا قال ابن قدامة: ((وَيُقَاتِلُ كُلُّ قَوْمٍ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ الْعَدُوِّ) الْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] وَلِأَنَّ الْأَقْرَبَ أَكْثَرُ ضَرَرًا، وَفِي قِتَالِهِ دَفْعُ ضَرَرِهِ عَنْ الْمُقَابِلِ لَهُ، وَعَمَّنْ وَرَاءَهُ، وَالِاشْتِغَالُ بِالْبَعِيدِ عَنْهُ، يُمَكِّنُهُ مِنْ انْتِهَازِ الْفُرْصَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ؛ لِاشْتِغَالِهِمْ عَنْهُ ... فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فِي الْبِدَايَةِ بِالْأَبْعَدِ؛ لِكَوْنِهِ أَخْوَفَ، أَوْ لِمَصْلَحَةٍ فِي الْبِدَايَةِ بِهِ لِقُرْبِهِ وَإِمْكَانِ الْفُرْصَةِ مِنْهُ، أَوْ لِكَوْنِ الْأَقْرَبِ مُهَادِنًا، أَوْ يَمْنَعُ مِنْ قِتَالِهِ مَانِعٌ، فَلَا بَأْسَ بِالْبِدَايَةِ بِالْأَبْعَدِ، لِكَوْنِهِ مَوْضِعَ حَاجَةٍ) [المغني: 9/ 202]. وقد ثبت أن وجود هذا الكيان السرطاني في الأمة أشد ضرر عليها.

عمل يتفق مع السنن الربانية

يتفق هذا النشاط مع السنن الربانية؛ حيث أقام الله هذا الكون وتلك الحياة على سنن وقوانين ثابتة مطردة، لا تتغير ولا تتبدل ولا تتحول: .. فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا  وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) [فاطر: 43].

ومن هذه السنن سنة "المدافعة بين الحق والباطل" التي لولاها لفسدت الأرض وأسنت الحياة، قال تعالى:  وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة: 251].. ولولا هذه السنة لحدثت مصائب أخرى  وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا  وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ  إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40]. قال الشيخ السعدي في تفسير الآية: (فلولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، لاستولى الكفار على المسلمين، فخربوا معابدهم، وفتنوهم عن دينهم، فدل هذا أن الجهاد مشروع، لأجل دفع الصائل والمؤذي، ومقصود لغيره) [تفسير السعدي: 539].

وهذه السنة هي التي تترتيب عليها سنة أخرى، وهي سنة "المداولة"، قال تعالى:  وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ  وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران: 140]، فلن تتحقق المداولة، ولن تدول الدول وتتغير الأوضاع وتتبدل الأحوال ويزول العدو، ويُدفَع الضرر والفساد وتمنع الفتنة إلا بالمدافعة، وسنة المداولة هي الأخرى – بدورها – تحقق ما قررته الآية الكريمة: ..وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ  وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وهذا يشير إلى تماسك السنن الربانية وتكاملها وارتباط بعضها ببعض.

إن مسيرات العودة الكبرى التي تنطلق الجمعة 30 مارس، وتنتهي منتصف مايو 2018م لهو عمل مبارك، ونشاط مشروع بل واجب، والتضامن معه والتداعي له حق بل فرض، وهو عمل فريد من نوعه، أعتقد أن الأيام القادمة ستكشف عن أنه إرهاص لأحداث كبيرة وانتصارات كبرى.

 

* استاذ مقاصد الشريعة الإسلامية