رغم الزخم الذي قدمه الكيان الإسرائيلي لجولة
بومبيو إلى المنطقة،
سواء من خلال الهجمات الصاروخية على حلب وحماة، أو من خلال خطاب نتنياهو المتلفز
الذي تحدث فيه عن خرافة الأطنان من الوثائق المتعلقة بالبرنامج النووي
الإيراني، إلا
أن الزخم المرتبط بهذه الحملة سرعان ما تلاشى وتبدد على وقع المواقف الأوروبية
والروسية.
فإيران
استطاعت احتواء الهجوم الصاروخي على قواعدها في سوريا، وتحول الهجوم إلى مصدر
للقلق داخل المجتمع الصهيوني الذي انتشرت فيه شائعات عن إمكانية رد إيراني على
الهجوم الصاروخي أدى إلى تراجع في أسواق الأسهم الصهيونية، وإلى حالة من الترقب
إلى ما بعد الانتخابات اللبنانية، أي أن أجندة الكيان أصبحت مرتبطة بأجندة لبنان،
وهو أمر طريف لمن يدرك معزى ذلك من ناحية سياسية.
هذه
الصورة لا تكتمل بشكل دقيق إلا من خلال استعراض مواقف القوى الأوروبية التي سارعت
إلى الإعلان عن أن
الاتفاق النووي مع إيران ثابت، ولن تطرأ عليه أي مراجعات،
فإيران ملتزمة بالاتفاق بحسب تيرزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية، وميركل،
مستشارة ألمانيا وماكرون، الرئيس الفرنسي، بل ذهبت ممثلة الاتحاد الأوروبي للشؤون
الخارجية موغريني؛ أبعد من ذلك إلى القول بأن ما جاء به نتنياهو لا جديد فيه،
وإيران ملتزمة بالاتفاق النووي، ولا نية لمراجعة الاتفاق، مع إمكانية إجراء
مفاوضات منفصلة مع إيران للوصول إلى اتفاق حول برنامجها الصاروخي.
جولة
بومبيو ارتطمت على صخرة الموقف الأوروبي الموحد، والأهم أن الاتصالات والمشاورات شملت
روسيا بعد اتصال ماكرون بالرئيس الروسي بوتين؛ الذي أكد على الالتزام بالاتفاق
النووي، لتتحول تصريحات
ترامب حول تمزيق الاتفاق النووي وإمكانية القيام بذلك في
12 أيار/ مايو القادم؛ لمصدر حرج كبير له، ومأزق عليه التعامل معه وحيدا.
من
ناحيتها، فإن إيران كانت مبادرة، إذ أعلن مسؤول في الحرس الثوري أن إيران لا نية
لديها لتطوير صواريخ يفوق مداها 2400 كم، فاتحا الباب لبدء مفاوضات طويلة تمتد إلى
سنوات حول برنامجها الصاروخي، مستدرجا بذلك إدارة ترامب إلى مفاوضات ستمتد سنوات
وسنوات. فإيران تتمتع بخبرة كبيرة في مجال المفاوضات، والاتفاق النووي يعد نموذجا
واضحا على ذلك. بل إن المسؤولين الأمريكان اعتبروا ذلك إنجازا، وتحدث ترامب
ومستشاره للأمن القومي بولتون عن إمكانية الجلوس على طاولة المفاوضات مع إيران،
أمر على دول الخليج أن تراقبه بحرص. فما يقوم به ترامب المضطرب والفاقد للبوصلة لا
يختلف مطلقا عما قام به أوباما. فالمؤشرات تقول إن جهود دول الخليج لمحاصرة إيران
وإسقاط الاتفاق النووي عرضة للتبدد والتبخر.
بومبيو
لم يحقق شيئا يذكر في جولته ولم يحرك المياه الراكدة، بل عزز من موقف طهران التي
ظهرت سعيدة بالمواقف الأوروبية والروسية والصينية. وبدت واشنطن، ومن ورائها الكيان
الصهيوني، معزولين عن الساحة الدولية، رغم الضجيج الكبير الذي ترافق مع جولة
بومبيو.
الفشل
في جولة بومبيو لم يتوقف عند حدود الملف النووي الإيراني، بل امتد إلى الملف
الخليجي. فتصريحاته عن ضرورة توحيد البيت الخليجي لم تأخذ على محمل الجد من أطراف
الأزمة الأساسيين، على رأسهم الرياض وأبو ظبي والدوحة، إذ تحولت تصريحاته إلى مادة
إعلامية تضيف ذخيرة جديدة للمواجهة الإعلامية بين أطراف الأزمة لا أكثر ولا أقل.
الملف
الفلسطيني لم يأت بومبيو بجديد، فدعمه المطلق للكيان أفقد جولته زخمها، واتخذ
مسارا استفزازيا، بالتأكيد بدعمه هيمنة الكيان على القدس، ولم يقدم حلولا للكيان
لمواجهة أزمته في قطاع غزة التي تشكلت على وقع مسيرات العودة. فسياسة ترامب إزاء
الملف الفلسطيني قوضت الاستقرار، وفتحت الباب لسيناريوهات يصعب تصورها.
تحولت
جولة بومبيو إلى استعراض بائس يخلو من المضامين السياسية، بل إنها تضمنت حدثا لم
يلتفت له الكثيرون، وهو قبول أمريكا بالشروط والرؤية التركية في منبج؛ بقبول
بومبيو وموافقته على تقاسم السيطرة مع تركيا على المدينة، وطرد القوات الكردية
الانفصالية، متجاوزا بذلك حماسة فرنسا للعب دور في المنطقة؛ واضعا أولى الخطوات
العملية للانسحاب الأمريكي من سوريا. فالاتفاق في منبج يتضمن شروطا تفضي إلى
انسحاب القوات الأمريكية من المدينة، بعد مدة محددة من الزمن لا تتجاوز الشهور
الستة.
المضحك
في جولة بومبيو أنها لم تطغ على الصخب الداخلي في أمريكا. فجون كيلي، كبير موظفي
البيت الأبيض، نقل عنه القول بأن ترامب "أحمق"، ليفتح الباب من جديد لمعركة
داخل أروقة البيت الأبيض. إذ انتشرت الشائعات بمغادرة كيلي للبيت الأبيض في تموز
المقبل.. الأزمة الداخلية الأمريكية لم تتوقف عند حدود أسوار البيت الأبيض
الداخلية. فالمعركة بين ترامب وستيفاني كليفورد، بطلة الأفلام الإباحية، ستنتقل
إلى المحاكم بعد أن أعلنت الأخيرة، بأنها سترفع عليه (ترامب) قضية تشهير، بعد
تغريداته على تويتر.
بومبيو
وزير خارجية لم يأت بجديد مجرد صخب، وعاد لواشنطن ليبدأ معركته في وزارة الخارجية،
إذ سيقوم بتعيين ثلاثة مستشارين جدد في وزراته، وسيتعاطى مع المشاكل التي تواجهها
الوزارة، خصوصا في ظل شغور الكثير من المناصب من الموظفين، لا سيما السفراء. كما
أن هناك ثمانية مناصب فارغة عليه التعامل معها، وجهازا بيروقراطيا ضخما بموازنة
تقدر بـ50 مليار دولار؛ عليه ترتيبه والتعامل معه، ما يعني أنه سيخوض معركة أشرس
كثير من معركته في المنطقة العربية وفي كوريا الشمالية، وهي المعركة الحقيقة
لبومبيو. فالخارجية، بحسب ترامب، معقل للديمقراطيين، وسيعمل بومبيو على تطهيرها
منهم؛ مطلقا معركة جديدة في أمريكا ستطول فصولها.