لم تهدأ الثورة المضادة التي تقودها دولة الإمارات في المنطقة، بل إنها تتصاعد يوما بعد يوم، وتأخذ أشكالا وأبعادا جديدة، يغوص بعضها في عمق لم تصل إليه من قبل.. أحدث تجليات تلك الثورة المضادة هو سعي الإمارات للهيمنة على الأقليات المسلمة في الغرب والعالم، وذلك عبر تأسيس ما يسمى "المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة"، والذي تستهدف من خلاله التحكم في الجمعيات والمراكز الممثلة للجاليات المسلمة، ومواجهة الجمعيات والمراكز المناهضة لها ووصمها بالإرهاب، وتحريض الحكومات الغربية لحلها وسحب تراخيصها، مستغلة قدراتها المالية للإنفاق على المراكز والجمعيات الموالية لها، من ناحية، وكذا تشويه سمعة المنظمات المناهضة عبر أدوات إعلامية وقانونية وجاليوية، من ناحية أخرى.. الخ.
المجلس الجديد تم الإعلان عن تأسيسه يوم 9 أيار/ مايو الجاري بحضور وفود من 140 دولة، في أبو ظبي التي تستضيف مقره العام. ووفقا لجريدة الاتحاد الإماراتية الرسمية، فإن "المجلس مؤسسة دولية تهدف إلى تنسيق جهود مؤسسات المجتمعات المسلمة في الدول غير الإسلامية، والارتقاء بدورها الوظيفي لتحقيق النهوض الحضاري، وتصحيح الصورة النمطية عن الإسلام والمجتمعات المسلمة، وتجسير الهوة الفكرية والثقافية بين مكونات المجتمع الإنساني". لكن الهدف الحقيقي للمجلس هو ما أسماه "تأصيل خطاب ديني"، بما يكفل تعزيز قيم المواطنة، وتحصين المجتمعات المسلمة في الدول غير الإسلامية من خطر الجماعات الدينية المتشددة ومواقعها الالكترونية (والمقصود هنا جماعة الإخون المسلمين والجمعيات والمراكز المحسوبة عليها).
الخطاب الديني الجديد، أو النسخة الإماراتية للإسلام، والتي تم تصنيعها في مكاتب المخابرات الإماراتية والمصرية والإسرائيلية والأمريكية، هي المعركة الرئيسية الحالية للإمارات وشركائها الإقليميين والدوليين. وهذه النسخة الإماراتية تقدم استسلاما لا إسلاما، فهو إسلام مهادن للحكام، مهادن للغرب، مهادن للصهيونية العالمية، رافض لمقاومة الظلم، سواء داخل الأقطار الإسلامية، أو على الصعيد الدولي، وخاصة الظلم الواقع على الشعب الفلسطييني.
الخطاب الديني الجديد، أو النسخة الإماراتية للإسلام، والتي تم تصنيعها في مكاتب المخابرات الإماراتية والمصرية والإسرائيلية والأمريكية، هي المعركة الرئيسية الحالية للإمارات وشركائها
تتصور الإمارات أنها بما لديها من فوائض مالية نفطية؛ قادرة على فرض نموذجها للإسلام عبر شراء ولاءات المشايخ ومسؤولي الجمعيات والمراكز الإسلامية في الغرب، وعبر شراء مساحات إعلامية، وتأسيس مساجد "ضرار" ومراكز إسلامية تحت رعايتها المالية التامة، ولكنها لا تدرك أن الدين هو أغلى شيء بالنسبة للمسلم الذي لن يأخذ دينه عن مشايخ المخابرات والبترودولار. وأسوق هنا نموذجا بسيطا لفشل المال في تغيير العقيدة، ففي منتصف التسعينيات أغدق الشيخ الفاسي، شيخ الطريقة الفاسية وصهر الأسرة الحاكمة في السعودية، مئات الملايين للترويج لطريقته عبر وسائل الإعلام المصرية المختلفة، ثم خرج من مصر في النهاية خالي الوفاض؛ لم يتبعه في طريقته أحد.
لم يكن هذا المجلس التنسيقي هو الخطوة الوحيدة للإمارات لنشر نموذجها المشوه للإسلام (أو بالأحرى الاستسلام)، فقد سبقته خطوات أخرى أنفقت عليها أبو ظبي ملايين الدولارات أيضا، منها ما يسمى بمجلس حكماء المسلمين، والذي أسسته منتصف آذار/ مارس 2014 بحضور وزير الخارجية عبد الله بن زايد، ليكون منافسا للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين برئاسة الشيخ يوسف القرضاوي، وليمثل لها أحد أدوات القوة الناعمة على الصعيد الإسلامي أيضا، ويقوم بدور الشارح والمفسر والمروج للنموذج الإماراتي للإسلام المنبطح.
بهذا التعريف أخرج هذا المؤتمر جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الجماعات الإسلامية والسلفية من دائرة أهل السنة والجماعة، بل كان ذلك هو الهدف بالأساس
في الإطار ذاته، رعت الإمارات
مؤتمر أهل السنة والجماعة الذي عقد في غروزني، عاصمة الشيشان، في 28 آب/ أغسطس 2016، والذي أحيا فتنة نائمة منذ قرون بين المسلمين السنة، حيث اعتبر أن "أهل السنة والجماعة هم الأشاعرة والماتريدية والصوفية"، وبهذا التعريف أخرج هذا المؤتمر جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الجماعات الإسلامية والسلفية من دائرة أهل السنة والجماعة، بل كان ذلك هو الهدف بالأساس. وقد رعت الإمارات أيضا تأسيس مركز علمي في الشيشان (تبصير)، لرصد ودراسة الفرق المعاصرة ومفاهيمها، وتشكيل قاعدة بيانات موثقة تساعد على التفنيد والنقد العلمي لما يوصف بالفكر المتطرف، والمقصود هو الفكر الذي يخالف الرؤية الإماراتية الجديدة.
يعاني حكام الإمارات من عقدة مستحكمة مع الالتزام الديني، فهو في نظرهم مصدر الإلهام لكل ثورات الربيع العربي التي كادت تطيح بعرشهم وعروش أصدقائهم الآخرين في الخليج، كما أنه يعرقل خططهم لتحويل دولتهم إلى عاصمة الترفيه والسياحة الحرة في الشرق الأوسط كله؛ بهدف جذب المزيد من المستثمرين والسياح. ولذا، لم تكتف دولة الإمارات بمواجهة ثورات الربيع العربي ذاتها عبر ثورات مضادة رتبتها (مع غيرها من قوى الشر) ومولتها بمليارات الدولارات، ولكنها تبنت نظرية تونسية قديمة وهي "تجفيف المنابع"، وهو ما يعني مواجهة أي مظاهر لمقاومة الظلم والاستبداد، ومقاومة الفكر الإسلامي الذي يؤسس لذلك، وتصدير فكر مشوه بديلا له.
يعاني حكام الإمارات من عقدة مستحكمة مع الالتزام الديني، فهو في نظرهم مصدر الإلهام لكل ثورات الربيع العربي
لكن المؤكد أن الإمارات (وإن نجحت مؤقتا في ترتيب بعض الانقلابات)، إلا أنها لن تنجح في تغيير عقيدة وفكر الشعوب والجاليات المسلمة، وستهدر الكثير من المليارات في محاربة طواحين الهواء، "فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون". ولعل نتائج الانتخابات المحلية في تونس، والبرلمانية في ماليزيا، كانت صفعة قوية لهذه الخطط الإماراتية، ولعل مسيرات العودة الفلسطينية كانت صفعة أخرى ستتبعها المزيد من الصفعات. فهل يفيق الشعب الإماراتي ويتحرك للخلاص من هذه العصابة التي تفسد دينه، وتهدر أمواله، وتدخله في خصومات مع أشقائه؟؟