على مدار التاريخ؛ لم تخل المجتمعات البشريَّة أبدا في جميع مراحلها من دينٍ تتعبَّد به. صحيح أن مُنكري الألوهية وُجِدوا على طول التاريخ الإنساني، وتزايدت أعدادهم بعض الشيء في الحضارة الغربية الحديثة، إلا أنهم لم يرتقوا أبدا لمرتبة الطبقة أو الفئة المؤثرة اجتماعيّا، وإن علا صوتهم مؤخرا بسبب المنابر الإعلامية الحديثة.
ولعل المعنى الذي يتبادر إلى أذهاننا اليوم من لفظتي "الكفر" و"
الإلحاد"، بمعنى اللا دين أو جحد الألوهية، هو مدلولٌ مستحدثٌ طارئ انتقل إلينا من الفكر الغربي، ليصبغ اللفظتين بمعنى إنكار الألوهية وجحد الغيب واليوم ا?خر. وهو مدلولٌ مرتبطٌ بتصور الكنيسة للإله الذي تجسَّد فيها، واعتبار منكريها والخارجين عليها جحدة للألوهية، رغم أنهم يعبدون آلهة أخرى تسوِّغها أهواؤهم! بينما يشي بعض الاستقراء المتأمل لتاريخ الإنسانية ودعوات الأنبياء من لدن آدم إلى محمد، عليهم الصلاة السلام، أن الكفر والإلحاد ليسا مرادفين لحالة من غياب
الدين، بل هما لونٌ من الدين؛ دينٌ "يوصم" به من يجحد دينا أو نحلة بعينها، ومن ثم قد تتقابل الإطلاقات اللفظية عند نحلتين مُتعارضتين؛ ليصير كل فريق منهم كافرا في عين الآخر، أي كافر بما يؤمن به الآخر.
إن مشركي العرب لم يكونوا يجحدون وجود الله، فقد كانت بقايا حنيفية إبراهيم عليه السلام غائرة في نفوسهم، لكن مصالحهم كانت ضد دين التوحيد؛ الذي ينزع عنهم امتيازاتهم المؤسسة على قاعدة الغلبة والعسف واستعباد العباد. كما أن مشركي الفرس لم يكونوا يرفضون وجود إله، وإن كانوا انحرفوا في معرفته، وأشركوا به ومعه آلهة أخرى. و تأمّل إجابة رسل سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنهم أجمعين) لرستم قائد الفرس حين سألهم عما جاء بهم، "إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عباده من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد". أي إن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ومن قبله الأنبياء والرسل جميعا؛ كانت حربا على دين الشرك، على تعبيد الإنسان لغير ربه الحق، على تعبيده لحاكم أو كاهن أو طبقة أو قبيلة أو عِرق أو أرض أو لذة أو منفعة، أو هوى شخصي يسوِّغ ذلك كله.
إن الكفر لغة، هو الستر أو التغطية، كما الإلحاد هو الميل عن الدينٍ والطعن فيه. فالكافر يستر ما لا يريد الإيمان به، بغض النظر عن أسبابه، يستره ويغطيه بواسطة دين آخر؛ دين شركٍ ما دمنا نتحدث عن الإسلام. ومن ثم يتقاطع الكفر والإلحاد مع الشرك وتعدُّد الآلهة بأكثر مما يتقاطعان مع جحد الغيب وإنكار الألوهية. إن من رفضوا دعوات الأنبياء لم يكونوا يجحدون الإله الواحد، بل يشركون به أو معه؛ يعتقدون بوجود آلهة متعددة، آلهة أخرى يُعبِّدون لها الخلق لاستغلالهم. إن المشرك/ الكافر/ الملحد بهذا المعنى هو إنسانٌ متدين؛ إنسانٌ يدينُ بدينٍ ما، وإن ضل الوجهة وضل السبيل. فدين الشرك يختلف عن جحد الدين بالكلية (الذي هو حالة نظريَّة بحتة). إن الشرك بهذا المعنى يصير هو أقدم الأديان (أو الانحرافات الدينيَّة) بعد الأصل التوحيدي.
أما عبادة الأوثان الحجريَّة فلون خاص من ألوان الشرك، وليس مرادفا كاملا وحيدا يقتصر عليه الشرك. فهو محض شكلٍ تاريخي واحد من أشكال دين الشرك، أو فرقة من فرقه. فرقة اشتهرت باتخاذها أصناما ماديَّة، إما لتُقرِّبهم إلى الله زُلفى أو ليتخذوها آلهة من دونه سبحانه. وقد كان القرآن واضحا في الكلام عن الشرك والمشركين، تحسُّبا من الخلط وسوء الفهم، واعتبار عبادة الحجر هي الصورة الوحيدة المرادفة لمعنى الشرك. وذلك لئلا يتوهَّم البعض انتهاء مهمة النبي صلى الله عليه وسلم، وسقوط رسالته الخاتمة بمجرد الإطاحة آنذاك بهذا اللون التاريخي من الوثنية الفجة، ذلك أن الدعوة التي أرسل بها الرسل، وخاتمهم صلى الله عليه وسلم، تستهدف أصلا حفظ استقامة الإنسانية على درب التوحيد، وصيانة وجودها من الانتكاس إلى أي مظهر من مظاهر الشرك، مهما كان. لقد استنكر القرآن المبدأ العام الذي تتأسَّس عليه جملة أنظمة أديان الشرك في استفهام أبينا إبراهيم الاستنكاري: "أتعبدون ما تنحتون؟!"؛ فالبشرية لم تقتصر على نحت الصخر وعبادته، بل نحتت من الأمور المادية والمعنوية ما تعلَّقت به لدرجة العبادة. إنه مبدأ عام يُعرِّف أسلوب تشكُّل العبادة في أديان الشرك، مبدأ ينطلق من تصور أشمل قرره القرآن كذلك: "أرأيت من اتخذ إلهه هواه". فإذا كانت المنظومات العبادية في أديان الشرك تتشكَّل بنحت العابد لمعبوده، فإن هذا النحت يصدُر عن الهوى المُضِل: إله الشرك المطلق، وإن اختلفت نحله ورسومه وطقوسه ومعبوداته.
إن مهمة الأنبياء والمرسلين لم تكن خلقا للشعور الديني في نفوس بني آدم، وإنما إزالة لكل العوائق التي تحول دون حسن وسلامة توجيه ذلك الشعور الإنساني الفطري، سواء أكانت اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية. وفي كل الأحوال، فإن هذه العوائق المادية الشركيَّة كانت تكتسب شرعية وجودية في مجتمعاتها عن طريق تغطيتها ببقايا الحق المطمور في الفطرة، الشعور الديني، حتى لتغدو في حسِّ العامة ممارسة عبادية يُتَقَرَّبُ بها لله. لذا، فإن مهمة الأنبياء وخلفائهم من الأولياء والمجددين؛ تزداد صعوبة كلما ازدادت مظاهر دين الحق التي يتدثَّر بها الشرك، إذ يزداد التلبيس كثافة على العامة، وتقل قدرتهم على التجرُّد من أوهاق الشرك المثقِلة؛ بصورةٍ لا يُعانيها الداعية في الجاهليَّات الوثنيَّة الصريحة. ولعل المصدر الأهم لهذا النموذج كله هو بعض ما شَهِدَه النبي صلى الله عليه وسلم، الحادثة التأسيسيَّة الفاصلة في دلالتها، حادثة "مسجد ضرار" الذي تنزَّل القرآن بالتحذير منه ومن الصلاة فيه؛ لأنه مسجد يُتخَذُ للصد عن سبيل الله. مسجد للشرك. وهو موضوع مقالنا التالي.