إن من المتفق عليه بين النحاة أن للحرف دلالة على معنى في
غيره، ويرتبط ذلك بالاسم أو الفعل الذي يصحبه، إلا أن الخلاف بين النحوين كالتالي:
هل
للحرف معنى قائم بنفسه؟ ولقد أسهم في الإجابة عن هذا التساؤل النحويون والأصوليون
(أصول الفقه) وهم بذلك غلى ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه
الأول:
أن
الدلالة على المعنى مرتبطة بالسياق اللغوي، إلا أن للحرف معنى في غيره، وبمفهوم
المخالفة ليس للحرف معنى في نفسه، وليس للحرف معنى على الإطلاق، إذ عرّف ابن يعيش
الحرف بأنه ما دل على معنى في غيره، وقال ابن عقيل: "وإن لم تدل الكلمة على
معنى في نفسها بل في غيرها فهي حرف"، ولقد اتجه نحو ذلك ابن الناظم
وابن الخشاب والمحقق الرضى في شرح الكافية.
ولنفي أن المعنى قائم بنفسه فقد ذكر السيد الجرجاني الأصولي في
حاشيته على مختصر ابن الحاجب بأن المعنى الذي وضع له اللفظ نوعان:
1.المعنى المطلق: وهو ما يستعمل مسند إليه أو مسند أي مثل المبتدأ
والخبر والفعل والفاعل.
2.المعنى المقيد: وهو المعنى حسب الاستعمال بحيث يشكل مفهوما محددا مثل
لفظ الابتداء الذي وضع ليراد منه هذا المعنى أو من خلال الحالات المتعلقة بقصد
المتكلم من علاقة الحرف باللفظ المرتبط به، مثل: ذهبتُ من المدرسة وذهبتُ إلى
المدرسة ولذا لا تدل على الابتداء والانتهاء إلا في حالة انضمامها إلى غيرها ولذلك
يسمي المناطقة حروف المعاني بحروف النسبة أو الوصلات لأنها تقوم بالربط بين معاني
الجملة.
ولذلك فإن الغاية والحد قد يُستغرقان في الحكم الشرعي وقد لا يُستغرقان،
مثال ذلك قوله تعالى: "فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق"، ولذا فمن
غسل يديه إلى نهاية المرافق أو بدايتها فلقد صدق عليه القول.
الاتجاه
الثاني:
أن
للحرف معنى بنفسه كما يدل نظيراه من الاسم والفعل سواء داخل الجملة أو خارجها مثل
فوق، وعلى، لتدلل على العلو، ولقد مثل هذا المذهب محمد بن إبراهيم النحاس الحلبي
النحوي وأبو حيان الأندلسي.
الاتجاه الثالث:
أن
للحروف معاني في نفسها إلا حروف الجر، فلا يتشكل معناها إلا بانضمامها إلى غيرها،
ويؤيد هذا الاتجاه الفضلي، فالواو تدل على العطف، بينما (إلى) لا تدل على معنى
الانتهاء بنفسها، وذلك بإفرادها من الجملة إلا بالربط بين الاسم والفعل ونسبة
أحدهما إلى الآخر، مثل: ذهب إلى السوق، وهذا ما يوافق قول الفارابي في تقسيمه
للحروف إلى خوالف وموصلات وحواشي، وذلك بتقريب النحو العربي من النحو اليوناني،
والذي اعتبره طه عبد الرحمن تدجيلا لغويا، إلا أن ابن النديم ذكر تأثر الرماني
بكتابه معاني الحروف لأرسطو طاليس.
ونجد أن للحرف معنى في نفسه ومعنى بغيره، إذ أن التصور الذهني للحرف
يدلل على معناه، فالأداة (إلى) تدل على الانتقال والانتهاء بذهن المستمع العربي،
وكذلك الواو تدلل على العطف، إذ أن الفراهيدي فسر الحروف الهجائية حرفا حرفا،
بشواهد شعرية غير موجودة في عيون الشعر العربي، أما الرازي فقد تحدث عن خصائص
الحروف الصوتية، ومن الأمثلة على معنى حرف الجيم لدى الخليل بأنه الجمل
القوي وقال عمرو:
تجدني جيما في الوغى ذا شكيمة
ترى البزل فيه راتعات هواربا
ولقد حدد فقه اللغات السامية المقارن، معاني للحروب الأبجدية، وإن
رسم الحروف يقترب من معانيها، وبذلك تقترب من تصور الخليل، وإن اختلفت المعاني مثل
الباء معناها بيت بفقه اللغات السامية.
ويتضح
من سؤال أبي سعيد السيرافي لمتي بن يونس بأن للحرف معنى في نفسه وبغيره، إذ يقول
أسألك عن معاني حرف واحد، وهو دائر في كلام العرب وهو الواو عن أحكامه، وكيف
مواقعه، وهل هو على وجه أو وجوه؟
مما يدلل أن للواو وجوها في المعنى، وإن قيل عن السيرافي بغير ذلك،
فمن معانيها كما يبين السيرافي في معاني نحو الحروف، العطف والقسم والاستئناف،
والتي يستغنى بها عن معاني المنطق، ويقول السيرافي: "ومن جهل حرفا أمكن أن
يجهل حروفا، ومن جهل حروفا جاز أن يجهل اللغة بكاملها".
وقال الفراء "وأموت وفي نفسي شيء من حتى" مما يدلل أنه لم
يفرغ من معاني (حتى) وإن الحروف تدخل في حساب الجمل فالعين يحسب واحد والباء
اثنان، ومن ذلك أيضا اختلاف المفسرين في تفسير معاني حروف فواتح السور القرآنية.
وعلى هذا المنهج سار الأصوليون لتفسير معنى الحرف بنفسه، وبيان وجوه
التفسير للحرف بذاته، لبيان تفسيره بارتباطه بغيره، أي أن للحرف معنى مستقل منفرد،
وإن لم يكن له معنى معجمي، ومعنى سياقي، وسميت بحروف المعاني لتميزها عن حروف
المعاني، ومنها حرف الواو كما بين الزحيلي، والذي يفيد العطف وفي حكمها
ثلاثة مذاهب:
أحدها: أنها للترتيب وهو الذي اشتهر عن أصحاب الشافعي. الثاني: أنها
للمعية وهو رأي مالك ونُسب إلى الصاحبيين أبي يوسف ومحمد بن حنفية، الثالث: أنها
لمطلق الجمع، أي أنها لا تدل على ترتيب ولا معية جمعا. وهذا مذهب جمهور أهل اللغة
والأدب والنحو وأئمة الفتوى والشرع، فمثلا: جاءني زيد وعمرو فالحكم تفيد بالاشتراك
بالمجيء دون مفارقة أو ترتيب مما يدلل على أن للحرف معنى بذاته، وما يدلل على أنها
للجمع والاشتراك، لقوله تعالى في سورة البقرة: "وادخلوا الباب سجدا وقولوا
حطة"، فالأمر والمأمور والزمن واحد ليس للترتيب.
وفي حكم لمحكمة التمييز الأردنية بالرقم 128/2014 فصل 5/5/2004، فإن
حرف الواو يدلل على الاشتراك بالمبدأ القانوني القاضي بما يلي: "إن تعاطي
التجارة من قبل شخصين بالاشتراك إنما يعني تعاطيهما هذه المهمة كشراكة.
وفي المادة 5/ج/9 من قانون المالكين والمستأجرين، والتي نصت أنه :إذا
لم يكن المالك مقيما في المنطقة، فيحق له تخليته ليسكن فيه عند عودته إلى تلك
المنطقة إذا اشترط ذلك في العقد..".
وقد لا نجد معنى لعند بذاتها، إلا في سياقها اللغوي، وهي لا تحتمل
التراخي بل الفورية في إقامة الدعوى، كشرط لصحتها، وبذلك نجد في حقل القانون
العديد من التطبيقات اللغوية التي تعتمد دلالاتها على الحرف.
وهذا يدلل على أن الحروف بذاتها لها معنى قائم بنفسه عند جمهور
العلماء النحويين والأصوليين والقانونيين، وذلك وفقا للسياق اللغوي، ومنها حروف
العطف والجر وأسماء الظرف وأدوات الشرط، إذ أن النحاة والأصوليين اجتهدوا وبينوا
معاني الحروف أي الأدوات، وبالنتيجة يكون للحروف معاني بنفسها وبغيرها، إذ إن
سيميائية العنوان تدلل على أنها حروف ذات معاني، وذلك مع تأثر النحو العربي بالنحو
اليوناني وفقا لرأي ابن النديم والرماني والفارابي.