كتبت فيما قبل أن "مجزرة رابعة" وأخواتها كاشفة فارقة، فهي كاشفة لمستور العسكر الذين حاولوا تغطية نظرتهم لهذا الشعب؛ نظرة دونية للشعب تخرج من رحم استبدادهم وطغيانهم وفاشيتهم، لا يقيمون وزنا لهذا الشعب البسيط من عموم الناس ولا لمطالبهم.. يتاجرون بهم ما أرادوا ويختبئون وراء دعوى أنهم يعملون لمصلحة شعب، وهم يمتهنونه ضمن صناعتهم الكبرى؛ صناعة جديدة ومستجدة لمقولة السادة والعبيد. و"رابعة" أيضا فارقة بين هؤلاء الذين يكشفون العسكر من زمن ويتعرفون على مكنونات مواقفهم، وكل ما يتعلق بنظرهم إلى هذا الشعب، وإلى حاجاته وضروراته. هي فارقة بين هؤلاء الذين يجلسون على حجر العسكر، ويأتون على دباباتهم، ويعتقدون اعتقادا جازما أن العسكر يشكلون طريق المرور الوحيد لسلطة مبتغاة لا تكون إلا عن طريقهم وبطريقتهم، وتتناسى هذه النخب المجازية أن الشعوب في النهاية لها كلمة الفصل والكلمة الأخيرة.
كل ذلك إنما كان يشكل رؤية لبعض القوى في هذا الشعب، إلا أن قيادات العسكر كان لهم رأي آخر
في "مجزرة رابعة" سنرى العسكر وقد أرادوا أن يتصدوا لبعض هؤلاء الذين رأوا أن من حقهم أن يحتجوا على قيام العسكر بقطع الطريق على مسار ديمقراطي وعلى استحقاقات انتخابية واستفتائية، وعلى تمسكهم بأول رئيس مدني منتخب.. كل ذلك إنما كان يشكل رؤية لبعض القوى في هذا الشعب، إلا أن قيادات العسكر كان لهم رأي آخر.. أرادوا من خلاله أن يؤكدوا أن السلطة هي ما يعتبرونها هم سلطة، وأن من لا يعتبرونه كذلك فلا يملك أي سلطة.. إنهم يرون في أنفسهم أنهم من يضفون على كل سلطة عنوانها، وأن لديهم خاتم الشرعية تحت دعوى حماية الشرعية والدولة. ومن هنا، كانت لهم تلك الصناعة الرهيبة حينما يلوحون للجماهير بالسلاح، ويحاولون بث الرعب والترويع فيما بينهم في إطار يُحكم صناعة الخوف لدى كل هؤلاء الذين لهم رأي أو رؤية مخالفة أو مختلفة.. إنه الحوار الذي يعرفونه، فبينما يحتج هؤلاء بالكلام وبالتظاهر وبالتعبير عن الرأي يلوح هؤلاء بالسلاح ويحولونه إلى صدور الناس لإسكات أي صوت يعقب على رؤيتهم أو يختلف مع مواقفهم.
صناعة الخوف تلك تمتد لعدم اعترافهم بأي مؤسسة منتخبة أو أي مؤسسة تمثل رقابة هذا الشعب إنهم لا ينظرون إلى ذلك إلا باعتباره تجرؤا على منطق سيادتهم، وخروجا على قواعد تعبيد الناس لهم ضمن معادلة السيد والعبد، فيبثون في روعهم أن الجيش ليس مؤسسة من مؤسسات الدولة، بل مؤسسة فوق الدولة، ولا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تقر بمعنى الرقابة الفعلية عليها من كائن من كان. ففي عرفهم متى يمكن للعبد أن يحاسب سيده؟ إن المنطق الذي يشكل ضمن شعارات معينة لا يعني بأي حال من الأحوال مشاركة من الشعب أو رقابة له، ولكنه يعني توطيد أركان علاقة السيد بالعبد. فقط هذا الذي يمكن أن يمر، وهذا ما كُتب له أن يستقر ويستمر، ومن ثم كانت ثورة الناس في الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير؛ ما اعتبروه خروجا على قواعد التأسيس التي شكلوها بأسلحتهم وصناديق ذخيرتهم، وأن على هؤلاء الناس الذين خرجوا من حظيرة تلك العلاقة أن يعودوا إليها سريعا، فيدخلون بيت الطاعة الإلزامي من غير مطالبات، وبدون أي تعقيبات، فضلا عن انتفاء أي مساءلات أو تساؤلات.
ومن ثم يترافق مع صناعة العبودية صناعة القطيع في إطار استراتيجيات معتمدة من الترويع والتفزيع، ومن الإفقار والتجويع، لضمان امتثال الجميع لخنوع أبدي لا يمكن لأحد أن يخرج عليه، أو يعدل أو يغير في مسيرته ومساره. وحتى يحكم المسار، فإن الصناعة التي يجيدها العسكر في هذا المقام هي صناعة الفرقة واللعب على أحبال الاستقطاب في إطار اعتماد سياسة ورثوا فيها الدولة الاستعمارية، وأكدوا على حقيقة الدولة المركزية الاستبدادية لمقتضيات شعار وسياسة تؤسس لعمل مستقر ومستمر في إطار استراتيجية "فرق تسد".. إنها قدرة العسكر على الإبقاء على دائرة الاستقطاب ماسكا بأهم عناصر ومفاصل الإحكام لتوطيد علاقة العبودية وحال القطيع الذي يسود الجميع.
يترافق مع صناعة العبودية صناعة القطيع في إطار استراتيجيات معتمدة من الترويع والتفزيع، ومن الإفقار والتجويع، لضمان امتثال الجميع لخنوع أبدي لا يمكن لأحد أن يخرج عليه
ومن صناعة الفرقة والاستقطاب تأتي صناعة أخرى يجيدها العسكر؛ حينما يحاول تصنيع الثقة، فلا يتفرد بها إلا كيان العسكر، بل إنما يبث كل ما من شأنه مؤديا إلى الوقيعة وتآكل الثقة بين أطراف قوى سياسية مختلفة ومتنوعة، فيجعل من ذلك المناخ حالة واقعية تُفقد الثقة من الجميع في الجميع، وتبقي على ثقة واحدة في العسكر وجودا وكيانا تحت عناوين وشعارات مختلفة، والذي يمثل كل عناصر ظاهرة أو كامنة مذكورة وخفية، فتمكن لحكمهم وتحكمهم وسيطرتهم على مساحات الأرض والجغرافيا، وعلى الموارد الاقتصادية، وعلى مصادر القوة السياسية ومفاصلها الإدارية.. كل ذلك يتشكل على أعينهم ووفق قواعدهم المعلنة وغير المعلنة.
ومن جوف تلك الصناعات تتشكل صناعة كبرى يحترفونها، ألا وهي صناعة الفوضى. إن من يملك القوة يستطيع مع أول بادرة لتغير تلك المعادلات السابقة؛ أن يقوم بصناعة وإشاعة الفوضى عن عمد وبتخطيط. إن العقاب بالفوضى هو أخطر ما يمارسه صاحب الطغيان والقوة؛ حينما يخير هؤلاء البسطاء بين حكمه وتحكمه وطغيانه وبين الفوضى الضاربة أطنابها في كل مكان وفي مفاصل الكيان، فيشيع الصورة التي تتعلق بأن به - وبه فقط - تلتئم زمام الأمور ويتحقق الاستقرار ويتخذ القرار، أما غير ذلك فهي الفوضى بعينها، وهي عمل غير مأمون يأكل الأخضر واليابس. ويروجون لدى العامة من البسطاء أنهم مفتاح الاستقرار، ومناط استمرار عجلة الانتاج في الدوران، ضمن قاعدة مأمونة في أعرافهم تجد مكانها في دهاليز تراث الاستبداد "سلطان غشوم خير من فتنة تدوم".
صناعات بعضها من بعض؛ كشفت عنها مجزرة رابعة حينما مارسها هؤلاء في كل الصناعات الأخرى التي تتعلق بتدشين حالة الكراهية، وتقسم الناس إلى شيع وأحزاب، وإلى قوى متشاكسة متفرقة تجعل من اتفاقها أمرا مستحيلا ولا تجعله مرغوبا، فتزكي نار الفتنة والصراع، وتخشى من أي حالة إجماع، وتؤسس لمقولات "انتم شعب واحنا شعب"، وتحاول شيطنة فصيل بعينه وتخلع عليه كل صفات الإرهاب وارتكاب العنف، فإذا لم يرتكبوه فعلا جعلوه محتملا، وقاموا بصناعة الصورة وفق تعميم الفرقة والكراهية التي يحترفونها وبات الأمر يجعل بعض هؤلاء من أهل هذا الوطن يتخلون عن كل ذرة من الإنسانية، فيستخفون بالدماء ويحرضون عليها، ليس فقط بصناعة غوغاء، ولكن من المؤسف بخطاب بعض علماء يحرضون ليل نهار على إراقة دماء، ويجعلون ذلك قربى (زورا وبهتانا) من أجل الوطن واستقرار الدولة.
صناعات بعضها من بعض؛ كشفت عنها مجزرة رابعة حينما مارسها هؤلاء في كل الصناعات الأخرى التي تتعلق بتدشين حالة الكراهية، وتقسم الناس إلى شيع وأحزاب
رابعة ناقدة.. النقد الذاتي (27)
هل كتِبَت شهادة وفاة مشروع "الجماعة الوطنية"؟.. النقد الذاتي (23)