عاد الأزهر مرة الأخرى إلى انتقاد دعوة الرئيس
التونسي الباجي قائد السبسي إلى
المساواة في
الميراث، حيث أكد وكيل الأزهر عباس شومان أن هذه الدعوة "تتصادم مع أحكام شريعة الإسلام"، وأن "المواريث مُقسمة بآيات قطعية الدلالة لا تحتمل الاجتهاد، ولا تتغير بتغير الأحوال والزمان والمكان، وهي من الموضوعات القليلة التي وردت في كتاب الله مفصلة لا مجملة".
كلام وكيل الأزهر تردده الأغلبية الساحقة من الشيوخ والإسلاميين كلما طرحت مسألة إعادة النظر في المواريث. لكن ما لا يقال؛ أن شخصيات ذات توجه إسلامي بدأت منذ فترة تطرح هذا الاحتمال بشجاعة، لكنهم اصطدموا بجدار إسمنتي سميك يرفض ولا يحاور.
من بين هؤلاء عدنان إبراهيم الذي اعتبر أن إعادة النظر في الإرث الإسلامي يتنزل ضمن "تحقيق المناط" بحكم اضطرار
المرأة النزول إلى سوق العمل. وتساءل: "إن ارتفعت نسبة النساء العاملات بأكثر من 60 في المئة وأضحت المرأة تكسب مثل الرجل، هل يبقى من العدل أن نستمر في هذا التنصيف؟"، أي أن يكون نصيبها من الميراث نصف شقيقها الذكر. وما أن نطق الرجل بمثل هذا القول، حتى وصفه مفتي السعودية الشيخ عبد العزيز آل الشيخ بكونه "مشبوه بأفكاره وآرائه".
عندما سئل طارق رمضان (المحبوب لدى مئات الآلاف من الشباب الإسلامي) عن هذه المسألة بالذات أجاب: "يعتبر العلماء النصوص حول الإرث نصوصا قطعية، وتبقى غير مفتوحة على التأويل. لكن المشكلة تكمن في كون بعض العلماء يعتبرون أن النص قطعي في تطبيقه بحكم أنه قطعي في لفظه. على سبيل المثال، فالنص حول قطع يد السارق كان نصا قطعيا، لكن بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، تم تعليق العمل بهذه الأحكام؛ لأن تطبيق النص بحرفيته كان في سياق لا يسمح بذلك، ولا يستجيب لمقاصد الشريعة، كمقصد العدل في هذه الحالة. بالنسبة لمسألة الإرث، لا أحد يمكن أن ينكر وجود النص. إن مسألة النصف في الإرث للأنثى التي نجدها فقط بالنسبة للنسب المباشر، كانت فلسفة أسرية قائمة على زيادة التكليف بالنسبة للرجل وإسداء حقوق خاصة بالنسبة للمرأة. فإذا كان يملك الرجل الضعف، فلأن من واجبه أن يلبي حاجيات الأسرة بأكملها. لكن حاليا، نحن في وضعية لا تحترم فيها المجتمعات هذا المنطق. فهناك رجال لا يكتفون فقط بالضعف، بل لا يتحملون أعباء باقي الأسرة. إزاء هذه الوضعية، من اللازم أن نتساءل عن مدى وفائنا لمقاصد الشريعة. فعوض أن نقوم بتطبيق هذا الحق الفردي المقيد، يجب أن نطبق الشريعة الإسلامية على مستوى الجماعة. فإما أن تتدخل الدولة في هذا الشأن وتتحمل مسؤولياتها.. ففي حالة الإرث مثلا، يجب أن تعمل على استرداد حقوق المرأة حتى تضمن استقلاليتها المادية، وإما يجب أن نعيد النظر في تطبيق هذه الأمور حتى نقوم بإصلاح الإطار العام للأسرة. أما التطبيق الحرفي للنص، فهو يؤدي إلى بعض الحالات ينتفي فيها العدل، وهذا ما يتناقض مع جوهر وخطاب النص"، و"نكون قد خنا الإسلام باللعب على التطبيق الحرفي للنصوص وتجاهل الفسلفة العامة للنصوص عندما يكون هذا الأمر في صالحنا".
أما في المغرب، فقد صدم الكثير من الإسلاميين والشيوخ عندما وجدوا توقيع "خديجة مفيد"، زوجة الداعية الإسلامي المعروف "المقرئ أبو زيد"، والقيادية السابقة بحزب "العدالة والتنمية"، على العريضة التي طالب أصحابها بإلغاء التعصيب في الإرث؛ والذي يعطي فرصة للذكور بحجب النساء في عديد الحالات الخاصة بالميراث، وهي الآلية التي ألغاها التشريع التونسي منذ فترة طويلة. لكن صدمة الإسلاميين المغاربة كانت أقوى عندما دعا الداعية المغربي محمد عبد الوهاب رفيقي، والسلفي السابق المعروف بكنيته أبو حفص، إلى "فتح نقاش حول تعديل منظومة الإرث، بحكم أن عددا من التغييرات الاجتماعية قد حصلت، وبحكم أن البنية الاجتماعية ليست كما كانت عليه في الماضي، ودور الفاعل الاجتماعي قد تغير على ما كان عليه الوضع". وقد تعرض الرجل إلى هجمة واسعة النطاق دفعت برابطة علماء المغرب العربي إلى إقالته بحجة أنه يعاني من "خلل فكري واضطراب في العقيدة".
دعانا مؤخرا رئيس الحكومة السابق عبد الإله بن كيران إلى بيته، وهو المعروف بانفتاحه وكرمه. وتعرضت النقاش إلى مسألة الميراث، وقد كان بنكيران (الذي أعرفه شخصيا منذ أواسط السبعينيات) قاطعا في رفضه للدعوة إلى المساواة بحجة وجود نص قطعي في هذا الشأن. لكني فوجئت بأستاذ ربطتني به صداقة عميقة رغم اختلافاتنا العديدة، وهو المثقف والإعلامي البارز فهمي هويدي، لم يتوسع في الحديث، لكنه لفت النظر إلى أن هذه المسألة "فيها نظر".
تدل هذه الشهادات على أن مسألة الميراث بدأت تطرح داخل الإطار الإسلامي، رغم الحصار الشديد الذي تمارسه "المؤسسات الدينية الرسمية". حتى مفتي الديار التونسية عندما سئل، لم يقف عند الآية "للذكر مثل حظ الأنثيين"، وإنما استند على الآية "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف"، رابطا بينها وبين المواثيق الدولية التي صادقت عليها تونس، والتي تعمل على إزالة الفوارق بين الجنسين.
ملاحظة أخيرة؛ أن المسألة في تونس لا تتعلق بتغيير نظام الإرث، وإنما بفتح المجال أمام تخيير الوارث الذي يبقى هو صاحب القرار النهائي في تزيع أمواله.
الوقت وحده سيحسم هذه المسألة، ليتحقق العدل الذي هو من أهم مقاصد الإسلام، والذي سيدفع الإسلاميين تدريجيا إلى تمكين النساء من حقوقهن بعد حرمان طويل.