ثمة قناعة باتت راسخة لدى الخبراء والباحثين ومراكز الأبحاث والأجهزة الاستخبارية الدولية؛ بأن هزيمة تنظيم "الدولة الإسلامية" بصورة نهائية لا تتمتع بالواقعية والمصداقية. وعلى الرغم من طرد التنظيم من مناطق سيطرته المدينية الحضرية في العراق وسوريا، والإعلانات المحلية عن نهاية تنظيم الدولة، إلا أن الوقائع كشفت عن حقائق مذهلة تتعلق بسرعة تكيّف التنظيم مع التطورت الميدانية، والمرونة الشديدة بالتحول إلى حالة اللامركزية وإعادة الهيكلة التنظيمية عسكريا وأمنيا وإداريا وشرعيا.
وقد جاءت كلمة زعيم تنظيم "الدولة الإسلامية" الأخيرة أبو بكر البغدادي، في سياق تأكيد مسارات إعادة الهيكلة والإعلان عن تدشين حقبة جديدة تقوم على مبدأ الصبر الاستراتيجي. فحسب البغدادي، "دولة الخلافة باقية وليست محصورة في هجين"، في إشارة إلى جيب للتنظيم في دير الزور، وأن أمريكا بـانتظار "أهوال" تفوق معارك العراق وأفغانستان.
فبعد قرابة عام على آخر تسجيل صوتي لزعيم تنظيم "الدولة الإسلامية"، أبو بكر البغدادي نشرت "مؤسسة الفرقان الإعلامية" التابعة للتنظيم تسجيلا صوتيا جديدا له، بعنوان "وبشر الصابرين"، مساء الأربعاء 22 آب/ أغسطس 2018، وبلغت مدته نحو 54 دقيقة. ويشير عنوان الكلمة ومضمونها إلى تدشين حقبة جديدة للتنظيم ترتكز إلى مبدأ "الصير الاستراتيجي"، وذلك بعد الانتهاء من عملية إعادة الهيكلة التي أقرها البغدادي في خطابه السابق في 28 أيلول/ سبتمبر 2017، بعنوان "وكفى بربك هاديا ونصيرا"، وبعد نهاية مشروع التنظيم السياسي (مؤقتا) كـ"دولة" تتوافر على هياكل للسلطة والحكم وتسيطر مكانيا على مناطق مدينية حضرية، وتستند في نهجها العسكري إلى منظق الحروب النظامية الكلاسيكية، حيث أسست كلمة البغدادي لعودة التنظيم لسيرته الأولى بالحفاظ على وجوده كمنظمة تتوافر على أيديولوجيا وهيكل تنظيمي وتمويل، تستند بصورة أساسية إلى حرب العصابات وتكتيكات الاستنزاف في المناطق الأكثر صعوبة في العمق الصحراوي، فضلا عن الاحتفاظ بمفارز أمنية وخلايا وشبكات منتشرة في المدن.
بددت كلمة البغدادي كافة الدعايات التي أشارت إلى إصابته أو مقتله، وأكدت على أن البغدادي استكمل عملية إعادة الهيكلة، ودخل في حقبة "الصير الاستراتيجي"، وبرهنت على خرافة عزلة البغدادي وأسطورة تصدع تنظيم الدولة، حيث يقود البغدادي أكثر التنظيمات الراديكالية الجهادية متانة على صعيد الهيكل التنظيمي. ورغم مقتل نجل أبو بكر البغدادي، "حذيفة البدري"، مطلع تموز/ يوليو الماضي في هجوم نفذه مع جهاديين آخرين في محافظة حمص، وسط سوريا، لم يخص البغدادي نجله بشيء. وكان التنظيم قد اقتصر عند نقل خبر مقتله على نعيه كغيره من مقاتلي التنظيم، تحت عنوان "قوافل الشهداء"، مع صورة للفتى مرتديا الزي الأفغاني وحاملا بندقية كلاشنيكوف، وأرفقت الصورة ببيان نعي جاء فيه أن "نجل الخليفة" أبو بكر البغدادي "قتل منغمسا في النصيرية والروس في المحطة الحرارية بولاية حمص".
يعيد البغدادي في كلمته الأخيرة التأكيد على المفاهيم المؤسسة لخطاب تنظيم "الدولة الإسلامية"، وسرديته الأساسية المرتكزة على سياسات الهوية الدينية الثقافية في فهم الصراعات والأزمات، وحتمية صدام الحضارات ومنطق الحروب الجديدة. فالتنظيم يقدم نفسه على أساس هوياتي كحركة احتجاجية إسلامية سنية مسلحة، وفعل استعادة هوية تتعرض للامتهان والإذلال والاستئصال ماديا ورمزيا؛ من القوى الغربية عموما وأمريكا خصوصا، وحلفائها المحليين. فحسب البغدادي، "لطالما حث قادة الصليب على توحيد الجهود في حرب الدولة الإسلامية، فإن حربهم اليوم حرب إبادة شاملة لأهل السنة لا تستهدف حسر نفوذ الدولة فحسب، وقد أدركوا منذ عهد ليس بالقريب أن السنة هم الخطر الحقيقي ولا بد من استئصاله". فالدول العربية والإسلامية، عند البغدادي، لا تمثل الإسلام السني الحقيقي؛ باعتبارها علمانية "مرتدة" كفرت بالإسلام وارتدت عن مبادئه، وأصبحت تحارب المسلمين وتتحالف مع "الصليبيين"، وعاجزة عن مواجهة "الصفويين"، وخصوصا السعودية التي تحظى بحضور دائم في خطابات البغدادي وأدبيات التنظيم، حيث يشدد البغدادي على كفر وردة حكام السعودية عن طريق التغريب والعلمنة، ويدعو أهل الجزيرة إلى التمرد والقتال ونصرة أهل السنة؛ بقوله: "انفضوا غبار الذل عنكم، فما عاد طغيان وكفر دولة آل سلول قبحهم الله بخاف حتى على صبيانكم وقد عزموا على تغريبكم وعلمنتكم في حملة ممنهجة؛ سعيا لإكفاركم وتدمير منهج أهل السنة والجماعة على أرضكم"، كما يقول البغدادي.
يشدد البغدادي في كلمته الأخيرة، وفي كافة خطابات السابقة، كما هو حال كلمات وخطابات أسلافة المؤسسين من الزرقاوي إلى أبو عمر البغدادي، على أن تنظيم "الدولة الإسلامية" يواجه تحديا وجوديا على أسس هوياتية؛ تقوده قوى محلية من "المرتدين" وإقليمية من "الصفويين" ودولية من "الصليبيين". فبحسب سردية التنظيم التي يشدد عليها البغدادي، فإن تنظيم الدولة يناهض ويقاتل الغرب الاستعماري (الصليبي) الذي - بنظره -ـ يشن حربا صليبية تهدف إلى استئصال الإسلام السني، ويعمل على طمس الهوية الإسلامية.
ويؤكد على الصعيد الإقليمي على مناهضة المذهبية الشيعية الإيرانية (الصفوية) التي تحارب المذاهب السنيّة، وتعمل على بناء قوة إقليمية شيعية إلى جانب المذهبية "النصيرية" السورية. وتمثل - بحسب البغدادي - القوى المحلية العربية والإسلامية "الردة" ثالوث العداء الهوياتي باعتبارها من الخونة والعملاء، حيث تستند سردية تنظيم "الدولة الإسلامية" إلى كونها تمثل درعا واقيا لأهل السنة في المنطقة التي يعمل على استئصالها أو تدجينها ثلاثي التحالف، الموضوعي حينا والواقعي أحيانا، والمكون من "المحلي المرتد" و"الإقليمي الشيعي" و"الدولي الصليبي". فبحسب خلاصة البغدادي، "لا زال أبناء الإسلام بفضل الله ومنه في دولة الخلافة يقفون موقف الثبات، متوكلين على ربهم، متجردين من حولهم وقوتهم في وجه أحلاف الكفر من صليبيين ويهود وملاحدة ومرتدين ومجوس"، وفق قوله.
يقوم مبدأ "الصير الاستراتيجي" الذي أقره البغدادي على قراءة للوضع الدولي والإقليمي والمحلي؛ تستند على أن العالم يتجه نحو مزيد من سياسات الهوية وصدام الحضارات، وتنامي الصراعات وتفشي الحروب بأنواعها، وتضارب المصالح. فحسب البغدادي "ميزان النصر أو الهزيمة عند المجاهدين ليس مرهونا بمدينة أو بلدة سلبت، وليس خاضعا لما يملكه مملوك من تفوق جوي أو صواريخ عابرة للقارات أو قنابل ذكية". فالولايات المتحدة - كما يقول البغدادي - دخلت في طور من التوحش والانحدار، وهي تتعرض لأزمات متتالية وتستنزف، وذلك بعد أن فشلت حملاتها العسكرية على يد مقاتلي "السنة" وطليعتهم تنظيم الدولة، وتنامي الخلافات مع أبرز الحلفاء، فـ"حامية الصليب" أمريكا - حسب البغدادي - تعيش أسوأ مرحلة تمر بها في تاريخها المعاصر، بعد دخولها ساحة الصدام المباشر مع أبناء الإسلام لما يقرب عقدين من الزمان، وأنها تشهد حالا مؤذنة بزوالها، و"ما عادت تخفي تلمظها على ما أنفقت من أموال طائلة لم تجن من ورائها سوى الحسرة والندامة. فمع اتساع رقعة الجهاد ومسعاها الحثيث لتحجيمه وكفه عن التمدد والانتشار ازدادت وتيرة استنزافها في بؤس وشقاء تكابده أمرين، وما العقوبات التي تفرضها على حلفائها وتدندن حولها اليوم، كما في المشهد التركي وطلبها الإفراج عن القس الصليبي ومجابهة طلبها بالرفض، وسعي الروس والإيرانيين للتمرد وعدم الانصياع لما تمليه عليهما من عقوبات، بل وحتى كوريا الشمالية تبدي عدم التزامها وتصف أسلوب أمريكا المتبع بسياسة العصابات. إلا علامة انكفاء وتدن عما كانت عليه، وازدراء متعمد من الحلفاء لما يرونه من ضعفها. وإن للمجاهدين بعد الله الفضل فيما ألم بها من كسر لهيبتها وهوانها، فلا اعتبار بزهوها وما تتشدق به من نصرها المزعوم بإخراج الدولة من المدن والأرياف في العراق والشام، فأرض الله واسعة والحرب سجال وما وضعت أوزارها"، وفق البغدادي.
يرى البغدادي أن أمريكا باتت في حالة من الضعف بفضل حرب الاستنزاف التي يقودها تنظيم الدولة منذ نشأته بعد الاحتلال الأمريكي للعراق ومن قبل في أفغانستان، الأمر الذي أدى إلى حالة من التخبط في عقد تحالفات مشبوهة ومشوهة مع المليشيات والأحزاب "الشيعة"، ودفعت روسيا إلى منافستها. يقول البغدادي: "بعد أن أباد الله على أيدي عباده المجاهدين المستضعفين في العراق ما أنشأته من الفرق والألوية والكتائب طوال عشر سنين أو تزيد، حتى ألجأها المجاهدون للتملق والتزلف للمليشيات والأحزاب الرافضية الإيرانية في العراق، فشب المستنجد به عن الطوق، حتى وصل قادة هذه المليشيات إلى سدة الحكم، وأصبحت تقلب كفيها تندب حظها، فهذا حالها ومقالها". ويضيف: "لقد أفشل المجاهدون بتوفيق الله ومنه ما كانت تحلم به أمريكا من السيطرة وبسط النفوذ، حتى أقبلت روسيا الصليبية تزاحمها في المنطقة وتنكد عليها استفرادها بها. وإنا في دولة الإسلام قد أعددنا لكم يا حماة الصليب وقتلة أهل السنة على أرض الشام وكل مكان ما سينسيكم بإذن الله أهوال العراق وخرسان وما انطفأ لهيب المعركة فيهما ولن ينطفئ بحول الله وقوته فالأيام بيننا يا عباد الصليب"، بحسب كلمة البغدادي.
رغم أن كلمة البغدادي تخاطب ما يطلق عليهم "أجناد الخلافة في العراق والشام وخراسان واليمن وشرق آسيا وغرب أفريقيا ووسطها والصومال وليبيا وسيناء ونجد والحجاز وتونس والجزائر والقوقاز وكشمير"، إلا أن الرهان الأكبر على العراق وسوريا. فعلى الصعيد المحلي في سوريا والعراق، يؤكد البغدادي على أن الظروف الموضوعية تؤسس لعودة تنظيمه. ففي سوريا التي يراهن عليها البغدادي كثيرا، يشدد على أن الفصائل المقاتلة في سوريا على وشك الزوال والأفول، واصفا إيّاها بـ"صحوات الشام" واعتبر أن ما حصل مع تلك الفصائل مشابه لما حصل مع ما سماها "فصائل الصحوات ومرتدي العشائر" في العراق. فالفصائل المقاتلة وقفت مع نظام الأسد في القتال ضد تنظيم الدولة في "حوض اليرموك وبادية السويداء". وهاجم ما سماها "فصائل الردة" في الجنوب السوري التي أجرت "تسويات مع نظام الأسد مؤخرا، واعتبر أن قادة الفصائل هناك "أنجزوا المهمة.. وعاد الخونة إلى سالف عهدهم"، منتقدا تسليم السلاح في الجنوب لنظام الأسد. وتنبأ بمصير إدلب المحتوم، وقال: "إن إدلب اليوم على شفا جرف هار يطالها قصف الروس ويريدون اقتحامها"، وقلّل من قدرة الفصائل العاملة في إدلب من قدرتهم على المواجهة.
خلاصة القول، أن كلمة البغدادي تؤسس لحقبة جديدة بعد استكمال عملية إعادة الهيكلة، تقوم على مبدأ الصبر الاستراتيجي، إذ تشير التقارير الدولية، رغم تضاربها، إلى أن التنظيم يمتلك بين 20 و30 ألف مقاتل في العراق وسوريا. وفي ظل الاعتماد على الاقتصاد في القوة ضمن تكتيكات حرب العصابات ونهج الاستنزاف، فإن تحقيق نصر نهائي على تنظيم "الدولة الإسلامية" يبدو مستحيلا. فمع نهاية مشروع التنظيم السياسي المؤقتة المرتبط بالسيطرة المكانية على المناطق الحضرية وفرض حكامته وسلطته كدولة، فإن واقع المنظمة يغدو أكثر فاعلية وأشد مرونة. فإعادة هيكلة تنظيم الدولة باتجاه اللامركزية سوف يشكل تحديا للاستقرار في إطار مبدأ الصبر الاستراتيجي، في زمن لم تعد تطيق فيه القوى الدولية الصبر.