ما هي القيمة الحقيقية في الصحافة المجانية؟ إنها الاستماع لرأي الصحافة - كما هي الحال في العديد من المقالات الافتتاحية التي نُشرت بالتنسيق خلال الأسبوع الماضي تعقيبا على خطاب الرئيس الأميركي المناهض للصحافة، فإن الإجابة على السؤال المطروح تعد من قبيل التغطية الواقعية والموضوعية للأحداث الراهنة.
غير أن هذا ليس ما كان يفكر فيه صائغو دستور البلاد الأوائل، أو ما كان يفكر فيه القاضي أوليفر ويندل هولمز عندما وضع مجموعة قوانين الصحافة الحرة خلال الحرب العالمية الأولى. كما أن الأمر لا يتسق مع الطريقة التي فكر بها أغلب كتاب الصحف والجرائد في أنفسهم حتى بزوغ نجم الصحافة كـ«مهنة» في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
إن السبب الحقيقي وراء قيمة الصحافة الحرة يكمن في الإعراب عن مجموعة متنوعة ومختلفة من الآراء، لا سيما تلك الآراء التي تختلف تماما عن الرؤية المتبناة حكوميا. وهذا بدوره من بين مغذيات الديمقراطية، التي تتطلب حالة من عدم الاتفاق مع أهل السلطة حتى يتسنى للجمهور والرأي العام التفكير في اختيار القادة الجدد بدلا من ذلك.
ومن الأهمية أن نأخذ في الاعتبار قيمة الرأي الحر في العصر الذي يشهد مزيدا من التشكيك في المقالات الافتتاحية وصحافة الرأي على الدوام. يتهم الرئيس دونالد ترمب، الإعلام، بأنه يؤدي دور «حزب المعارضة»، ما يعني الفشل الضمني لقيمة الموضوعية. بيد أنه ليس أمرا سيئا بالنسبة إلى صحافة الرأي، بما في ذلك مجالس التحرير في الصحف الكبرى لأن يعتبروا أنفسهم معارضين للرئيس ترمب. فإن هذا النوع من المعارضة الصحية هو ما يُبقي الديمقراطية في البلاد على قيد الحياة، ويشكل في فحواه واحدة من المسؤوليات الجوهرية للصحافة الحرة.
واستيضاحا للأمر، فإنني لا أكتب مناهضا للتطلعات الصحفية المعنية باكتشاف الحقائق والإبلاغ عنها. فهناك فارق واضح بين الحقيقة الواقعية والأكاذيب المروية. وحيث إنه لا يوجد بين أركان المجتمع من لديه الوقت أو الاهتمام لضبط أو تعديل تلك الحدود، ينبغي على الصحافة بذل قصارى جهدها لأن تضطلع بمسؤولية كهذه.
بدلا من ذلك، فإنني أشير إلى الحاجة إلى أن التدقيق في الحقائق لم يكن الأساس الجوهري للرؤية التقليدية، التي تفيد بأن الصحافة الحرة ضرورية للغاية في خدمة الديمقراطية.
ولنرجع بالذاكرة إلى جيمس ماديسون، الذي صاغ التعديل الدستوري الأول. لم يمنح الصحافة الحرة الكثير من التفكير عندما كان في واقع الأمر يعمل على صياغة التعديل الأول، وتوجه إلى التركيز على الصحافة الحرة فقط عندما بدأت المعارك الحزبية بين الحزب الجمهوري الذين ينتمي إليه والفيدراليين من أنصار ألكسندر هاميلتون في تحديد هُوية السياسات الوطنية.
استعان هاميلتون وأنصاره بصحيفة تسمى «غازيت أوف ذي يونايتد ستيتس» في نشر الآراء ووجهات النظر الفيدرالية وترويجها، بل وتعمد نشر المقالات المجهولة بواسطة جون أدامز، الذي خدم في منصب نائب الرئيس، وذلك بتشجيع وتأييد من جانب توماس جيفرسون (وزير الخارجية آنذاك)، الأمر الذي أفضى إلى إنشاء جريدة منافسة تحت اسم «ذي ناشيونال غازيت» لمجابهة صحيفة «هاميلتون» من خلال طرح الرؤية والمنظور الجمهوري للأمور.
وجاءت المنافسة الصحفية لتعكس أهمية التبارز بالآراء المختلفة. ولم يفكر أحد من كلا المعسكرين في موضوعية أي من الجرائد العاملة في الوقت ذلك. وفي واقع الأمر، كان من المشكوك فيه ما إذا كانت فكرة الموضوعية الفعلية - باعتبارها هدفا صحفيا محضا - متصورة في القرن الثامن عشر داخل الولايات المتحدة آنذاك.
عندما وقع جون أدامز كرئيس للبلاد، على قانون الفتنة الذي أقره الكونغرس الذي يسيطر عليه الفيدراليون وقتذاك، استخدم القانون في مقاضاة رؤساء تحرير الصحف المؤيدة للخط الجمهوري. وتعرض الكثيرون منهم للإدانة والغرامة والسجن، بسبب توجيه الإهانات المباشرة ضد الإدارة الأمريكية برئاسة أدامز.
الأمر الذي دفع ماديسون إلى العمل بصياغة تقرير تبنته الهيئة التشريعية في ولاية فيرجينيا، ويتضمن أول دفاع مفصل عن التعديل الدستوري الأول. وقال إن الصحافة الحرة ضرورة من ضرورات ضمان الانتخابات الحرة، نظرا لأن الصحافة الحرة وحدها يمكنها تزويد الجمهور بالأفكار التي يحتاجون إليها في «الممارسة المنصفة لحقوقهم الانتخابية». وكان هذا دفاعا قويا عن صحافة الرأي، وهو الأمر نفسه الذي يعاقب عليه قانون الفتنة سالف الذكر.
وبعد مضي أكثر من قرن من الزمان، عندما أعربت المحكمة العليا الأمريكية للمرة الأولى عن قيمة الصحافة الحرة وحرية التعبير، كتب هولمز يقول إن التعديل الأول لا بد أن يُفهم في سياق التشبيه بسوق الأفكار المفتوحة. وكتب يقول، «إن الاختبار الأفضل للحقيقة يكمن في قبول قوة الفكر ضمن سياق المنافسة في السوق. وهذه، على أي حالة، هي نظرية دستور بلادنا».
لم يترك هولمز المجال مفتوحا لأي شكوك في أنه كان يفكر في الآراء، وليس في الحقائق الموضوعية. وحذر هولمز قائلا: «يجب أن نتحلى باليقظة إلى الأبد ضد محاولات الحد من التعبير عن الآراء التي نرفضها، ونعتقد أنها محفوفة بالمخاطر المهلكة، إلا إذا كانت تلك الآراء تهدد فعليا بالتدخل السافر والفوري في الأغراض المشروعة والملحة من القانون، التي يتطلب حيالها التدقيق العاجل والصارم إنقاذا لمصالح البلاد».
وتستند نظرية هولمز بأكملها إلى البراغماتية الفلسفية. فقد كانت الآراء ذات قيمة مؤقتة، ولم تخضع للتحقق الموضوعي. حتى فكرة حرية التعبير في حد ذاتها، كما وصفها: «هي مجرد تجربة، كما أن الحياة ذاتها ليست إلا تجربة».
والنتيجة أننا في حاجة لكي نتذكر أن الصحافة الحرة تحفظ الديمقراطية، في غالب الأحيان، عن طريق السماح بالتعبير عن وجهات النظر والآراء البديلة. حيث تسعى الحكومات السلطوية أو الاستبدادية بكل قوتها إلى قمع وإخماد الخلاف في الرأي بالقدر نفسه، أو هو أكثر، من سعيها لقمع وإخماد الحقائق.
والمقالات الافتتاحية المنسقة المنشورة، الأسبوع الماضي، هي مثال على ذلك. فهي تمثل التعبير عن الآراء وليست الحقائق. ومن خلال بث هذه الآراء بين الناس، خلقت الصحف والجرائد دورة إخبارية ذاتية، تلك التي ركزت على الصحافة في حد ذاتها، بدلا من التركيز على انتقاد الرئيس ترمب لها.
ومن الرائع أن تحاول الصحف والجرائد تبني مبدأ الموضوعية. لكن القيود الإنسانية للمحررين والكتاب تعني أن هذا الأمر لا يعدو أن يقترب من أفق التطلع، وليس الواقع المُنجز بشكله الكامل.
وهذا جيد؛ إذ إن مبرر الصحافة الحرة لا يعتمد على كونها تتحلى بالموضوعية، بل على العكس، فالصحافة الحرة ضرورية للديمقراطية، نظرا لأنها تحافظ على تعددية الآراء ووجهات النظر المطروحة.
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية