في كتاب النقد الذاتي، كان من المهم أن نفتح بابا عن الفجوات التي تعاني منها السياسة المصرية بعد زلزالي الثورة والانقلاب، وشرعنا في الكتابة حول الفجوة بين النخبة والجماهير، خاصة في ذلك الانفصال الذي تمثله تلك النخبة في التعبير عن مطالب هذه الجماهير وأهم ضروراتها. وإذا كان هذا وجها من الوجوه التي تتعلق بهذه الفجوة، فإن لذلك وجها آخر يجب التوقف عنده، وهي الفجوة التي تتعلق باستخفاف تلك النخبة في نقل صراعاتها السياسية، والتي شكلت حالة استقطاب مستعصية في ما بين قواها المختلفة، سياسية كانت أم ثقافية. وشكل هذا الاستقطاب ميدانا خطيرا نقلت فيه هذه النخبة حالة الاستقطاب تلك إلى حالة فرقة مقيمة بين فئات المجتمع المختلفة وبين أطياف الجماهير المتنوعة، فأحدث ذلك شرخا كبيرا داخل المجتمع استهانت به النخبة في بداية أمرها، إلا أنه تفاقم إلى حال قد يصعب جبره مستقبلا.
بل إن ذلك أشاع - للأسف الشديد - حالة من حالات الكراهية والانقسام والفرقة بين الجماهير، بل بين تكوينات المجتمع بأسره ومكوناته الاجتماعية، طالت للأسف الشديد عصب الحياة الاجتماعية وكسّرت عظامها وهتكت لحمتها وفرطت في كل مفاصل تماسكها، فعلت هذه النخبة كل هذا بحالة من الاستهانة والمهانة وفقدت للأسف الشديد المعنى الذي يتعلق بنخبويتها وبجوهر وظيفتها في أن تمثل طليعة الوعي المطلوب الذي يؤسس لمجتمع متين في أساساته رصين في شبكة علاقاته الاجتماعية وفي وحدته التأسيسية وفي تماسك جماعته الوطنية، مستندا إلى رصيد الجماعة الثقافية ومشيّدا حالة من الحصانة والتأمين للجماعة السياسية، على ما يؤكد على كل تلك المعاني المستشار طارق البشري (الحكيم البشري) في كثير من كتاباته ضمن مشروعه الفكري الممتد.
وفي هذا المقام بدا لنا أن نتحدث عن هذه النخبة باعتبارها "جماعة محنطة"، حافظت على وجوه عتيقة، ومارست قدرا من الأطماع جعل من نيلها من المجتمع والجماهير أمرا سائدا ضمن ممارستها السياسية التي تحركها مطامع آنية وأنانية، ومصالح دنيئة لا تعتبر الوطن هدفا لها، أكثر من ممارستها لحالة من الصراع السياسي المفتوح الذي جلب على الدولة والمجتمع حالة من تدني العلاقة ووهنها، وأدى إلى حالة تسيس وأدلجة مقيتة لم تثمر في النهاية إلا أمراضا اجتماعية ومآلات سياسية أدت في النهاية إلى تغول سلطة عسكرية استبدادية فاشية؛ افتقد فيه المجتمع المدني أكثر فاعلياته، وباتت هذه النخب ضمن هذا المجتمع، بعد أن طالها التهديد، في حالة من الشلل الكامل التي لم تحصل فيه على الحد الأدنى من أطماعها، بعد أن باعت كل شرفها وفرطت في جوهر وظيفتها، فتحولت تلك النخب - كما أكدنا - إلى "نخب منحطة" لا يقتصر فعلها على حالة من عدم الفاعلية لقدم أساليبها، ولكن انحدرت إلى دركات من الانحطاط، فنقلت صراعاتها الأيديولوجية والسياسية إلى عصب المجتمع، ومزقت كثيرا من شبكة علاقاته الاجتماعية من دون استشعار أي حالة من حالات المسؤولية، فانحازت إلى السلطة، حيث يجب أن تكون ممثلة للجماهير بعد ثورة، وباتت في أحضان العسكر؛ متصورة أنه سينقذها من فصيل وطني مخالف ربما اختلف معهم أيديولوجيا وسياسيا.
إلا أن ذلك لا يعفي نخبة تتعلق بالمشروع السياسي الإسلامي في بعض تكويناته، والذي مارست فيه بعض القوى حالة من ضيق الأفق، فأدى ذلك إلى تمكين قابليات الاستقطاب، واستطاع المستبد العسكري الفاشي أن يتلاعب بكل قوى النخبة المحنطة، والتي انغلقت على نفسها، واستغل الخلاف والتنازع في ما بينها ليجعل من الوطن ساحة لصناعة الكراهية، والقيام بكل ما من شانه أن يضحي بأسس الجماعة الوطنية، فلا حافظ على دولة ولا حمى المجتمع، وباتت تلك العلاقة علاقة مريضة غير سوية، أدت في النهاية إلى أوضاع مأساوية، وكأن هذه القوى صارت تمارس حروبا كلامية، والتي شكلت مقدمات للاحتراب الأهلي والاقتتال المجتمعي، فكان ذلك سببا في أن ننعت نخبا محنطة وجماعات ضيقة الأفق، بحيث انحطت الممارسات السياسية إلى أدنى صورة، فازت فيها العسكرية الفاشية، بينما انهزم المجتمع والسياسة التي تمارسها تلك النخبة، فيسرت على تلك القوى الفاشية ولكل الفئات المصلحية من المضادين للثورة أن تحاصر الحالة الثورية وتقوم على تشويهها. وقامت الطغمة العسكرية الفاشية باغتصاب السياسة وتأميم المجال العام، وسهلت لهؤلاء طريقا لاختطاف مؤسسات الدولة والمجتمع على حد سواء، تحت تهديد السلاح، اختطافا قسريا، فصادرت السياسات واختطفت المؤسسات.
ولم تكن هذه النخبة في معظم تكويناتها، سياسية كانت أم ثقافية أم فنية أم اقتصادية، إلا أدوات، خاصة من رجال أعمال استطاعوا من خلال علاقة مشبوهة مع السلطة الفاشية أن يخدموا كل ما يتعلق بعملية تمكينها؛ بعد ثورة شعبية عقد عليها الأمل في عملية تغير كبير، وضمن صياغة لعلاقة سوية بين الدولة والمجتمع، إلا أن الأمور التي مارستها تلك النخبة (التي لا تستحق هذا الاسم للأسف الشديد) ضمن عمليات صناعة الفرقة والاستقطاب بكل صنوفها، كانت في خدمة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية. ورغم ذلك، لم يحصل البعض على أدنى الفتات، والبعض الآخر حوصر، بل إن بعضا من هؤلاء قد طوردوا ووضعوا في السجون، وصارت هذه الحالة المأساوية التي وصلنا إليها حالة من الخطورة بما كان للدولة والمجتمع، فأخرجت أسوأ نماذج الاستبداد وأحقرها، من خلال خطاب يشكل في الحقيقة خطابات مزيجا من خطاب الأوهام والترويع وحالة من الإفقار والتجويع، ولا يقبل إلا عسكرة المجتمع، وحالة من نمطية للصوت الواحد الذي يردد معزوفة من النفاق والتبرير والتزوير لمجمل حياة الناس.
صار هذا التزوير بالنسبة لهؤلاء "صنعة" لعملية غسيل مخ قذر لا يبقي ولا يذر، يقدم خطابا مأفونا أثّر على الدولة والمجتمع معا تأثيرا يقود إلى حالة من التشرذم الخطيرة، والتفريط في كل مقدرات الوطن، وترك الشعب نهبا لسياسات ترويع وتجويع. كل ذلك يعتبر من أهم المآلات التي أسهمت النخبة في صناعتها حينما قدمت وهيأت المناخ والوسط بفعلها وممارستها، فأدت إلى ما نحن فيه. فإذا كانت النخبة قد انفصلت عن الجماهير في مطالبها، واستخفت في مقدرات المجتمع، وتحيزت لسلطة فاشية أتت بعد كل ذلك لتمزق علاقات المجتمع وبنيته التأسيسية، ليتمخض الأمر في النهاية عن تحويل مصر إلى سجن كبير، حيث تمكنت عصابة من اختطاف الوطن تحت تهديد السلاح، ومررت بعض النخبة قطع هؤلاء الطريق على مسار ديمقراطي؛ متخيلة أنها تنهض ببناء دولة مدنية فآل الأمر إلى فاشية عسكرية كلنا أسهمنا في صناعتها.. فقد آن الأوان لأن نفتح الطريق لتمكين نخبة جديدة يمكن أن تواكب عمل التغير القادم، وتخوض معركة النفس الطويل، وربما هذا يكون محط مقال قادم حينما نكتب عن فجوة الأجيال.