ما زال سعر الليرة التركية يتسم بالتقلب في ظل مقاومة ودعم ملحوظ، وهذا التقلب لا ينعكس أثره على المستهلك فقط ارتفاعا في الأسعار، ولكن يمتد هذا الأثر إلى المستثمر الذي يترقب على حذر استقرارا لليرة، للحيلولة دون الوقوع في نفق مخاطر سعر الصرف التي قد تنسف ربحه بل ومشروعه من أساسه.. وكل هذا يطرح سؤالا مهما هو كيف يمكن للمستثمر الاستثمار في ظل التقلب الملحوظ لسعر صرف الليرة؟
وتشير البيانات التركية إلى أن الدين الخارجي على تركيا يبلغ نحو 460 مليار دولار، وهو أقل من نصف الناتج المحلي الإجمالي، وتبلغ حصة القطاع الخاص من ذلك الدين نحو 300 مليار دولار، وحصة الدين الحكومي 160 مليار، بنسبة 27 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وتحتل تركيا بهذه النسبة المرتبة 21 عالميا، بل إن حجم ديونها يقل عن مديونية معظم الدول الأوروبية واليابان والولايات المتحدة.
وفي تقرير لبنك الاستثمار الدولي "جي. بي مورجان"، قدّر حجم الدين الخارجي التركي الذي يحل أجل استحقاقه حتى تموز/ يوليو 2019 بنحو 179 مليار دولار، أي ما يعادل نحو ربع الناتج المحلي التركي. وأضاف التقرير أن مبلغ 146 مليار دولار من هذا الدين مستحق على القطاع الخاص، وخاصة البنوك، بينما تبلغ حصة البنوك منه 4.3 مليارات دولار، وحصة القطاع العام 28.7 مليار دولار. ويستحق من هذا الدين نحو 32 مليار دولار في الفترة المتبقية من 2018، والمدفوعات الكبيرة سيحل أجلها في أيلول/ سبتمبر الحالي، وتشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر المقبلين. كما أن نحو 47 مليار دولار من الدين المستحق عبارة عن ائتمانات تجارية يمكن تمديدها، كما تستحق ديوناً بنحو 108 مليارات دولار حتى تموز/ يوليو 2019؛ تنطوي على مخاطر مرتفعة فيما يتعلق بتمديد آجال استحقاقها.
ومن خلال هذا التقرير تبرز مشكلة ديون القطاع الخاص التركية ومخاطرها، ولكن مع ذلك يمكن التقليل من مخاطرها من خلال التحوط لها ضد مخاطر سعر الصرف، وهذا ما قررته الحكومة التركية حينما ثبتت سعر صرف الدولار مقابل الليرة عند حاجز 4.20 ليرات لتسديد الديون الخارجية. كما أن مشكلة العجز المتنامي في الميزان التجاري، والذي بلغ في العام 2017م نحو 77 مليار دولار، بنسبة 37.5 في المئة، والتي لها تأثيرها على الليرة، شهدت تحسنا، حيث انخفض هذا العجز في شهر آب/ أغسطس الماضي إلى 32.4 في المئة، مقارنة بنفس الشهر من العام السابق. وكل هذا يكشف أن هناك إجراءات حكومية مستمرة للحد من تداعيات التقلب في سعر صرف الليرة.
كما أن الدين ليس عيبا طالما تم توجيهه بصورة تحقق عائد تمكن من سداده، فالمهم تركيبة هذا الدين بصورة تؤدي إلى اتباع سياسة تمويلية من خلاله تمكن من المواءمة بين الربحية والسيولة والأمان من المخاطر. فالسياسات التمويلية منها ما هو مثالي، ومنها ما هو محافظ، ومنها ما هو جريء. والسياسة التمويلية المثالية تقتضى ضرورة مواءمة توقيت استحقاق الأموال المستخدمة في تمويل الأصل، مع توقيت التدفقات النقدية المتولدة عنها. ووفقا لهذه السياسة ينبغي تمويل الأصول الدائمة (الأصول المتداولة الدائمة + الأصول الثابتة) من مصادر تمويل طويلة الأجل، وتمويل الأصول المؤقتة (الأصول المتداولة المؤقتة) من مصادر تمويل قصيرة الأجل. ويؤخذ على هذه السياسة تجاهلها لمدى استعداد المنشأة لتحمل المخاطر، لذا من المنطقي إدخال متغير جديد في قرار تمويل الأصول؛ هو مدى استعداد إدارة المنشأة لتحمل المخاطر، من خلال سياسة التمويل المحافظة أو سياسة التمويل الجريئة.
وسياسة التمويل المحافظة لا تقتصر فيها إدارة المنشأة على استخدام مصادر التمويل طويلة الأجل في تمويل الأصول الدائمة، بل وأيضا لتمويل جزء من الأصول المؤقتة، في محاولة منها لتخفيض مخاطر العسر المالي. وتؤدي تلك السياسة إلى تخفيض المخاطر، أيضا تخفيض العائد على الاستثمار. أما سياسة التمويل الجريئة ففيها لا تقتصر إدارة المنشأة على استخدام مصادر التمويل قصيرة الأجل في تمويل الأصول المؤقتة، بل أيضا لتمويل جزء من الأصول الدائمة، أملا في زيادة العائد على الاستثمار، رغم ما يترتب على ذلك من زيادة في المخاطر. وتؤدى تلك السياسة إلى زيادة المخاطر، أيضا زيادة العائد على الاستثمار.
ويلاحظ أن سياسة التمويل الجريئة وإن كانت موجودة في تمويل الشركات التركية لكن لها ما يبررها من قدرتها على تحقيق عائد وإن كانت أكثر مخاطر، ومع ذلك ينبغي ضبطها والحد من استفحالها. مع التأكيد على أن تضخيم مشكلة الديون التركية وعجز الميزان التجاري يدخل في باب نزع الثقة عن الاقتصاد التركي، وهذا ما يتطلب من المستثمر الحريص على تركيا باعتبارها قلعة الإسلام وملاذ المظلومين المتبقية في الأرض، والتي تحيط بها الأخطار من كل جانب أن يكون عونا لاقتصادها، لا معولا لنشر الشائعات والهدم للاقتصاد بقصد أو بدون قصد.
إنه مما لا شك فيه أن المستثمر في السوق التركي يعاني من المعضلات الثلاث: سعر الصرف والتضخم وسعر الفائدة، فانخفاض الأول يزيد من الثاني، وهو ما يتطلب الزيادة من الثالث، وهو ما يعني زيادة تكلفة الاستثمار وأثمان السلع والخدمات، ويهدد بحدوث ركود، وهو ما تسعى الحكومة التركية من خلال قرارتها إلى الحيلولة دون وقوعه. ولكن مع ذلك، يمكن للمستثمر، في ظل هذه المعضلات وتذبذب سعر الليرة التركية، أن يضع أمامه خيارين للتعامل مع مخاطر سعر الصرف: الأول، التسليم بواقع التغير في سعر العملة. والثاني، التحوط من مخاطر سعر الصرف. ونحن لا نوافق على الخيار الأول وندعم الخيار الثاني، ولكن في الوقت نفسه لا نوافق على استخدام أدوات للتحوط غير شرعية كالعقود المستقبلية والخيارات وعقود المبادلة الموجودة في الأسواق الدولية، وهذا لا يمنعنا من وضع بدائل شرعية لتحوط المستثمر ضد مخاطر سعر الصرف يأتي في مقدمتها: القروض المسندة بقروض أخرى، حيث يقوم المستثمر الذي يمتلك عملة صعبة بإيداعها كوديعة استثمارية في أحد البنوك التشاركية التركية، والحصول مقابلها على تمويل بالليرة التركية، ومن ثم يتحمل فقط مخاطر سعر الصرف بالنسبة لعائد مشروعه الاستثماري.
كما يمكن للمستثمر في حال رغبته في تجنب مخاطر ضياع وديعته الاستثمارية أن يعتمد على بنك خارجي له فرع محلي (أو ليس له فرع محلي) يودع فيه وديعته الاستثمارية، مقابل خطاب ضمان أو كفالة بموجبها يمكنه الحصول على تمويل من أحد البنوك التشاركية التركية.
كما أنه يمكن للمستثمر تكوين مخصص لانخفاض سعر صرف الليرة التركية يكون كوسادة مالية يقيه تقلبات الليرة التركية، كما يمكن له كذلك اللجوء للتأمين التكافلي الإسلامي ضد مخاطر انخفاض سعر صرف الليرة التركية، فضلا عن التحوط ضد ارتفاع أسعار السلع من خلال عقدي السلم والاستصناع، وهو في اختياره لأداة التحوط المناسبة يحكمه في ذلك دراسة مزايا وتكاليف كل أداة. وفي النهاية يجب أن يعي المستثمر أنه لا يوجد استثمار بلا مخاطر، وأن العمل التجاري معرض للربح والخسران، ولكن يجب عليه أن يأخذ بالأسباب ويعقلها بدراسة المخاطر المتوقعة ثم يتوكل على الله.
يا عزيزي إنها الحرب وإن لم تسمع طبولها...
هل تعيد الليرة التركية رسم خرائط المنطقة؟
في الإمكان التركي للخروج من دائرة الاستهداف