كان ينبغي عمل شيء عاجل بخصوص الوضع
الاقتصادي المتردي، فالنقص الشديد في السيولة وارتفاع الأسعار وصلا بالوضع المعيشي للأغلبية الساحقة لليبيين إلى الحضيض.
ضغوط سياسية وأمنية
صحيح أن نجاح أي مقاربة إصلاحية اقتصادية يتطلب استقرارا سياسيا وانضباطا أمنيا وتماسكا في المنظومة الادارية للدولة، لكن تعقد المسار السياسي والتطورات الأمنية المقلقة تشكل ضغطا إضافيا قد يقود إلى وضع أشد تأزيما يمكن أن يدفع إلى الهاوية.
ولذا فأنا ممن يرون أن أي خطة يمكن أن تسهم في تخفيف المعاناة الكبيرة وتنزع فتيل الاقتتال باتت ضرورة بغض النظر عن قصورها والنتائج السلبية المرافقة لها ما دام هناك مفسدة أعظم وخطر أكبر يمكن تلافيه.
والمهم اليوم هو البحث في ضمانات نجاح الإصلاحات لأجل تحقيق الحد الأدنى من معالجات الأزمة المالية الخانقة. والتحدي اليوم هو العجز عن مجابهة جملة من العوائق والعقبات التي قد تجعل من برنامج الإصلاح هدرا جديدا للمال العام ووسيلة مستحدثة للفساد.
شروط ضرورية
أول الأسئلة التي تشغلني هو عن مدى دراسة ما تم الاتفاق عليه ضمن محضر اجتماع المجلس الرئاسي والمجلس الأعلى للدولة والمصرف المركزي حول التقدير الصحيح لحجم التمويل المطلوب لإنجاح الإصلاحات الاقتصادية ضمن سقف الإيرادات المقدرة.
إن أوجه التمويل التي تعهد بها الموقعون على الاتفاق عديدة وضخمة، منها أكثر من 6 مليارات دولار تخص علاوة الأسر والتي أصبحت ألف دولار للفرد في العام، بالإضافة إلى عشرة آلاف دولار متاحة للجميع بشكل سنوي، هذا علاوة على الأموال المخصصة لتغطية الطلب على العلاج ونفقات الدراسة في الخارج، ثم مخصصات الاعتمادات.
نعم، تشهد إيرادات الدولة تحسنا ملحوظا بعد تخطي سقف الإنتاج 1.1 مليون برميل يوميا وارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية، لكن برنامجا تمويليا ضخما نسبيا قد يكون له أثر غير محدود على أوجه الإنفاق الأساسية، ويبدو أن تفاصيل برنامج الإصلاح غير مدروسة بشكل دقيق في إطار سقف الإيرادات وأوجه الإنفاق العام.
القلق الأكبر يكمن في القدرة على تنفيذ البرنامج بما يحقق المرجو منه من التصدي للنقص الشديد في السيولة ومكافحة التضخم والعودة بسعر صرف الدينار الليبي إلى مستوى مقبول في مقابل الدولار الأمريكي.
وتبرز هنا مشاكل الخلل الكبير في المنظومة الإدارية، والفساد الذي اتسع نطاقه وفتح المجال لتكوين شبكة كبيرة تضم موظفي المصارف في مستويات عدة وعدد كبير من المتربحين الكبار والصغار خارج الجهاز المصرفي والذين دلت عليهم مخصصات الأسر من العملة الصعبة الـ "400 دولار"، والاعتمادات المستندية التي شكلت النزف الكبير في أموال الدولة خلال العامين الماضيين.
أتخوف من أن تنجح دوائر المصالح المتشابكة التي اقترن وجودها بتجارة العملات الصعبة بعد تدهور العملة المحلية في الالتفاف على الإصلاحات الاقتصادية والحد من النتائج الإيجابية المرجوة منها، خاصة أن محضر الاتفاق اقتصر على حث المصرف المركزي والمصارف التجارية على القيام بما يضمن تنفيذ الإصلاحات بشكل صحيح.
أعتقد أن المطلوب أكبر من مجرد حث الجهات المعنية على تنفيذ الإصلاحات أو تكليف جهات أمنية "بيروقراطية" بمهام ضبط العملية ومنع الخروقات، بل ينبغي أن ترافق الإصلاحات الاقتصادية جملة من الإجراءات الفاعلة لمحاصرة شبكة التربح غير القانوني والتلاعب بتدفق الدولار بشكل سلس.
العوائد المالية للإصلاحات الاقتصادية يمكن أن تشكل أحد أكبر تحديات البرنامج، فالعوائد قد تفوق عشرين مليار دينار والمخصص منها لتغطية الدين العام لن يكون كبيرا، وبالتالي نحن أمام أموال تتحكم فيها الحكومة في ظل إشكال كبير في توازن السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وفي ظل منظومة فساد قادرة على الضغط على صناع القرار ومحاصرتهم.
مقاربة استثنائية
يبقى التذكير أن الإصلاحات الاقتصادية التي تم إقرارها هي مجرد مقاربة استثنائية لمجابهة وضع صعب وخطير، وأن الاعتماد عليها والاستمرار في تنفيذها في ظل الاختلالات السياسية والمؤسساتية والأمنية لفترة تطول قد تقود إلى نتائج غير مرغوبة، من أبرزها تشكل طبقات من الفساد والمفسدين بشكل أكبر مما هو موجود اليوم وفتح المجال لتنافس وتصادم أطراف عدة تتوسل قوة السلاح لفرض إرادتها.
وبالتالي فإن النظر الصائب ينبغي أن يتجه وبشكل عاجل إلى الدفع بعجلة الإصلاح السياسي والأمني صوب الاستقرار والتقدم خطوة باتجاه إصلاح اقتصادي شامل يهدف إلى تحريك عجلة النمو وتحقيق جملة من الأهداف التنموية في كافة المجالات.