عندما يكون بلد ممنوع فيه النشاط النقابي أو تكون الحركة النقابية ضعيفة ومنقسمة، فإن حقوق العمال تصبح مهدورة، ومصالحهم الحيوية تتحكم فيها السلطة القائمة بالتحالف مع أصحاب الأموال بشكل عشوائي. وفي المقابل، عندما تكون
النقابات قوية مقابل دولة ضعيفة، فإن العواقب تكون سيئة على البلاد والعباد.
ما يجري في
تونس هو أقرب إلى السيناريو الثاني في حال استمرت الأوضاع على ما هي عليه، وتصاعدت المواجهة بين
اتحاد الشغل وحكومة الشاهد التي تتصارع في الآن نفسه مع نجل رئيس الجمهورية، حافظ السبسي، الممسك بما تبقى من حزب نداء تونس، والذي قرر تجميد عضوية الشاهد في الحزب.
للتذكير فقط، لعب الاتحاد العام التونسي للشغل أدوارا محورية خلال مقاومة الاستعمار، وعند بناء الدولة الوطنية، وفي كل الأزمات الكبرى التي مرت بها تونس. ورغم تحالفه مع الحكم، سواء في عهد الرئيس بورقيبة أو مع الجنرال ابن علي، إلا أنه كان ينتفض من حين لآخر مثلما حصل خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. وقد لوحظ تاريخيا أنه كلما ضعفت السلطة وفقدت قدرتها على تسيير الأمور ومعالجة المسائل الاقتصادية وحتى السياسية، إلا واشتد عود النقابات، وعززت من استقلاليتها، وتعاملت مع الحكومات المتعاقبة بندية تصل إلى درجة الاستعداد للمواجهة الميدانية. ولا تزال انتفاضة 26 كانون الثاني/ يناير 1978 عالقة في أذهان التونسيين، خاصة الجيل الذي عاشها لحظة بلحظة.
يشعر الاتحاد بأنه في موقع القوة؛ لأنه في المقابل تمر الدولة بحالة ضعف سياسي واقتصادي ومالي وإداري. يعتقد الاتحاد بأنه صاحب فضل على جميع الذين تداولوا حتى الآن على الحكم. فهو الذي ساند انتفاضة الشباب خلال الأيام الأخيرة من حكم ابن علي. وهو الذي أطر الأشهر الأولى من مرحلة انتقال الحكم. وهو الذي دخل في مواجهة كسر عظم مع حكومتي الترويكا بقيادة حركة النهضة حتى إخراجها من السلطة. وهو الذي لعب دورا حاسما في الرباعي الذي حمى الانتقال السياسي، وفتح المجال أمام إجراء انتخابات تشريعية وسياسية جديدة مكنت من انتقال سلمي للسلطة.
اليوم يجد الاتحاد نفسه متناقضا مع حكومة الشاهد بعد أن اقترب منها مؤقتا. يعتقد النقابيون بأن هذه الحكومة تتحرك وفق تعليمات صندوق النقد الدولي، وتنفذ توصياته بشكل حرفي. وتروج مصادر الاتحاد بأن حكومة الشاهد تستعد للتفويت في عشرات الشركات التابعة للقطاع العام من أجل خوصصتها. وأصدر الاتحاد قائمة في هذه المؤسسات المحالة على البيع تضم 70 مؤسسة من بينها الإذاعة والتلفزيون، وأعلنت قيادة الاتحاد أنها ستتصدى لهذه السياسة بكل الوسائل. ورغم أن الحكومة كذبت ذلك، إلا أن الاتحاد لم يغير لهجته وواصل في تهديد الحكومة والعمل على إسقاطها مهما كان الثمن.
كان رد الاتحاد على مسألة الخوصصة بالطريقة التالية التي عبر عنها الناطق الرسمي باسم الاتحاد العام التونسي للشغل، سامي الطاهري، عندما أكد أن المنظمة الشغيلة "لن تسمح بالتفويت في أية مؤسسة عمومية، باعتبارها ملكا للشعب التونسي". وأضاف قائلا بكل حزم: "جرّبوا التفويت في مؤسسة عمومية واحدة.. وليحاول مالكها الجديد دخولها.. الأمور ستحسم ميدانيا.. لن نسمح بالتفويت في أية مؤسسة عمومية".
بطبيعة الحال، للاتحاد وجهة نظر يرددها منذ فترة طويلة. فهو يدعو إلى إصلاح هذه المؤسسات "بدل الدفع نحو إفلاسها عبر الممارسات المشبوهة كتعيين الفاسدين على رأسها".
صحيح أن الحكومة تحدثت عن الأزمة الضخمة التي تعيشها مؤسسات القطاع العام، حيث يعاني الكثير منها عجزا هيكليا متفاقما، وهي تفكر في بيع عدد منها سيكون أقل بكثير مما روج له النقابيون، فهي من جهة تريد أن تتخلص من هذا العبء الذي يكبل ميزانية الدولة، أيضا حتى ترض صندوق النقد الدولي الذي من بين سياساتها الليبرالية التضحية بالقطاع العام لصالح القطاع الخاص. وبقطع النظر عن التفاصيل، فالمؤكد أن الخلاف عميق بين الاتحاد وكل الحكومات التي تعاقبت على السلطة منذ الثورة إلى الآن حول كيفية معالجة مسائل اقتصادية واجتماعية أساسية من بينها مستقبل القطاع العام. ولهذا السبب كانت معظم القوى السياسية التي تفوز في الانتخابات تجد نفسها في أزمة مفتوحة مع الحركة النقابية، وتتهم الاتحاد بتسييس العمل النقابي. ولهذا أجاب الأمين العام المساعد للاتحاد بوعلي المباركي هؤلاء بالقول: "لا أحد يمكن أن يُحدد للمنظمة الشغيلة المربع الذي تتحرك فيه باستثناء مؤسساتها وهياكلها". بل ذهب إلى أكثر من ذلك، عندما اعتبر أن مشاركة النقابيين في الانتخابات التشريعية القادمة "أمر وارد". وهذا يعني أن الاتحاد قد بدأ يفكر في اقتحام المجال السياسي من خلال البرلمان، وهو أمر إن تم سيغير كثيرا من المشهد التونسي ما بعد الثورة؛ لأن مشاركة النقابيين في البرلمانات السابقة كان يتم بتنسيق وتحالف مع الحزب الحاكم.
هدد الأمين العام للاتحاد باللجوء إلى الإضراب العام الذي سيكلف الدولة خسارة رهيبة، في وقت تعاني فيه الدولة عجزا رهيبا. وتجري الآن في تونس محاولات عديدة لمنع هذا الإضراب الذي يذكّر التونسيين بفترات صعبة من تاريخهم. وللأمانة، تدرك القيادة النقابية أن الدولة ضعيفة وأن الاقتصاد المحلي لا يتحمل هزة قوية من هذا الحجم، وهي التي تؤكد باستمرار أنها تضع مصلحة تونس فوق كل اعتبار، إذ كلما حصلت مواجهة بين السلطة والنقابات إلا وخسر الطرفان، وحصل نتيجة ذلك تصدع كبير في الدولة والمجتمع.