في حادثة غير مسبوقة بمصر أو في أي بلد متحضر، يموت عدد - ما زالت الأجهزة المعنية تعمل على إخفائه - من مرضى الغسيل الكلوي على أجهزة من المفترض أنها جديدة، حيث أنها دخلت الخدمة منذ عدة أشهر فقط في مستشفى مركزي حكومي، لتظهر فضيحة أكبر، وهي أن المسؤول عن توريد المياه المفلترة لتلك المستشفيات والخاصة بتلك الأجهزة.. هي الهيئة الهندسية التابعة للقوات المسلحة، مما يهدد حياة ما يزيد عن خمسين ألف مريض فشل كلوي يحتاجون للعلاج بشكل يومي ويوضعون على تلك الأجهزة.
والغريب أنه في الوقت الذي نتحدث فيه عن محاولة إصلاح المنظومة الصحية من رأسها مرورا بالعاملين فيها والأجهزة والأدوية والمسؤولين، وحتى أصغر عامل في أقصي وحدة صحية، نجد أن عدد المرضي مرشح للزيادة باستطراد، حيث أن مسببات المرض وانتشاره تزداد مع الوقت ضراوة، فالمياه الملوثة بمياه الصرف هي السمة الأساسية لمياه الشرب والاستخدام اليومي، والأطعمة الملوثة والتي تروى بمخلفات المصانع وإعادة استخدام مياه الصرف الزراعي المشبع بالمبيدات والكيماويات الخطرة على صحة وحياة الناس والحيوانات، في الوقت الذي تعاني فيه المستشفيات من نقص شديد في الدواء والأطباء مع سوء الخدمة الصحية المقدمة لندور في حلقة مفرغة بين الأداء الحكومي؛ في جميع مؤسساته المعتمدة اعتمادا كليا إجباريا على ما يسمي بالهيئة الهندسية.
مما اضطر مسؤول قطاع الطب الشرعي للاستقالة مبررا قراره بأن بيئة العمل غير ملائمة والصلاحيات غير كافية، في إشارة لضغوط تمارس على الرجل الذي شارك في تمرير مقتل المئات من الأبرياء، ومنهم الصحفية شيماء الصباغ التي كتب في تقريره عنها أنها ماتت نتيجة نحافتها مما أدى لعدم تحملها الرصاص، مما يوحي لنا بضخامة حجم الضغوط هذه المرة في تمرير تلك الحادثة الجديدة من نوعها، وهي القتل العمد لمرضى الفشل الكلوي لصالح الهيئة الهندسية التي لم تترك مجالا في البلاد إلا واخترقته وسيطرت عليه تماما.
الهيئة الهندسية للخدمات الشاملة
لا يتوقف التعمد في قتل
المصريين للمرضى منهم فقط، وإنما طال ذلك التعمد كل مجالات الحياة في المواصلات العامة، فلا يكاد يمر أسبوع دون حادث قطار، وتحتل مصر أعلى المراتب في معدل الحوادث اليومية على أقوى شبكة طرق تربط البلاد شرقا وغربا، طولا وعرضا، على حد تعبير قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي، تلك الطريق التي يشرف عليها بشكل مباشر وتنفذها الهيئة الهندسية، ليصير اسم اللواء كامل وزير حاضرا في كل المشاريع التي يجب أن تقوم عليها الحكومة ليكون آخرها العنوان الذي نشرته اليوم السابع في عددا الصادر بتاريخ 18 أيلول/ سبتمبر الجاري تحت عنوان "انحشار أوتوبيس أسفل قاعدة كوبري المندرة في الإسكندرية"، مع العلم بأن الطريق المرصوف، آسف الكوبري، قد انتهت الهيئة الهندسية من رصفه حديثا، ولم يقيم المنفذون ارتفاع الرصف اللازم لعبور وسائل المواصلات العامة، ومن الطرق والكباري التي يتم اكتشاف أخطاء قاتلة فيها؛ لا تقع فيها أصغر شركات المقاولات العاملة في نفس المجال، فيتم ترميم الكباري بعد افتتاحها بشهور معدودة للمشروعات التنموية في منطقة شرق بورسعيد وأحياء كاملة بالمدن الجديدة، وإنشاء مدن جديدة من الأساس ليتفرغ الجيش بهيئته الهندسية لأعمال المقاولات العامة دون أن يجرؤ أحد أن يتساءل عن مصدر تمويل تلك المشروعات، أو أين تذهب أرباحها، ثم السؤال الأهم، من يقوم بمهمة الجيش إذا كانت تلك مهمته في البلاد الآن؟
ومن العجيب أن المشاريع الفاشلة التي تتم لم تتوقف عند قطاع الطرق وبناء الوحدات السكنية، وتحصيل رسم الطرق التي يتحمل تبعاتها المواطن البسيط، وإنما دخلت
القوات المسلحة في منافسة قوية مع شركات الأدوية والقطاع الصحي، لنفاجأ بحوادث أليمة يذهب ضحيتها المريض أولا، ثم الموظف البسيط ليمثل كبش فداء معروف لتفادي مساءلة الفاعل الحقيقي. ومن الغريب حقا في بلاد دفعت دماء أبنائها في ثورة غالية الثمن أن تجد من ينادي باستمرار تلك المهزلة، ومشاركة العسكر في قضايا وأزمات مصنوعة، منها على سبيل المثال أزمة ألبان الأطفال، وأزمة الأنسولين، وأزمات الأدوية الهامة للمرضى المزمنين والتي تختفي من الأسواق بشكل كامل، نجد من يستغيث بالقوات المسلحة لحل الأزمة، تبدأ بالفعل بعرض ما لديها بسعر مخفض، ثم ترفع السعر كما تريد وبلا رقابة، ليجد المواطن أخيرا نفسه مضطرا للشراء بأي ثمن، لتصير تلك مهمة الحكم العسكري لنجد الدواء العسكري، والطريق العسكري والخضروات العسكرية، كما ارتضينا من قبل بالبيض واللحوم والمحروقات العسكرية في مؤسسة تدعي وطنية.
نظام عسكري شمولي فاشل
في دولة العسكر قل للمؤسسات وداعا
فمنذ أكثر من ستين سنة وتئن مصر تحت مظلة الحكم العسكري الشمولي، فلا دستور محترم تسري قوانينه على رقاب الجميع بعدالة ومساواة، ولا مجالس تشريعية تتم باختيار حر للشعوب فتفرض كلمتها وتراقب أجهزة الدولة دون خوف أو وصاية؛ لأن مرجعيتها الشعوب التي اختارتها من البداية، ولا وزارات تتخذ قرارات حرة وتنفذها بشفافية، ولا سلطة للشعب ليسائل الجميع عن الموازنات العامة ومقدرات البلاد التي تجرف، ولا سلطة لصحافة أو إعلام فتنكشف الحقائق، ولا قضاء مستقلا يضمن أحكاما عادلة لأفراد الشعب. منذ أكثر من ستين عاما تخضع مصر لإجراءات تقشف من طرف واحد وهو الطرف المستضعف.. الشعب الذي أتى السيسي ليحنو عليه، فإذا به يقتل أول تجربة ديمقراطية حقيقية في مهدها، ليحكّم الدبابة في رقاب البسطاء، ويطلق يد العسكريين في البلاد فتفسد ما لم يفسده أسلافهم من قبل. يفقد الجنيه المصري أكثر من نصف قيمته، فتتغول الأسعار، تباع الجزر، يخصخص ما تبقى من القطاع العام، يحارب الموظف البسيط والمواطن الذي لا يجد قوت يومه، يفسد منظومة التعليم، يحارب القطاع الخاص ورجال الأعمال، يحارب الكلمة ويعتقل كل من يفتح فمه بكلمة اعتراض، يهمل البنية التحتية ليهتم الجيش فقط بالبحث عن أرباح عاجلة وسريعة وهائلة يحصلون عليها من جيوب الغلابة لتضيف أعباء فوق أعبائهم، غير مبالين من أين وكيف يمكن الاستمرار بذلك الوضع المزري.. هذا على مستوى الفشل السياسي والاقتصادي، أما من الناحية الأمنية فحدث ولا حرج.
للشعب كلمة لم يقلها بعد
لظروف أقل قسوة مما يعانيها بكثير، دفع الشعب المصري حياة المئات من خيرة أبنائه في ثورة بغير مقدمات في الخامس والعشرين من يناير؛ كلفت النظام السياسي كله ثمنا فادحا، وأجبرت رأس النظام المصري وقتها على التنحي. وبصرف النظر عن نجاح الثورة من أساسه، فروح الثورة ما زالت رغم القمع الشديد، ورغم الآلة الحديدية التي يهيأ لها أنها تسيطر على الأوضاع. ورغم انقلاب الانقلاب على مسانديه بعد التخلص من معارضيه، فإن روح الثورة ما زالت تسري في هذا الشعب، وما زالت رياح الخامس والعشرين من يناير تلوح في الأفق، وما زالت أرواح الشهداء الذين لم يُقتص لهم بعد؛ تستحث الشعب على الخلاص من براثن الحكم العسكري الجائر، وما زالت بالبلاد بقية من خير ندركها يوميا في صرخة العائدين من معسكر الانقلاب يكشفون أسراره، نادمين على دعمه يوما.
إن شعبا دفع ثمن حريته؛ عزيز عليه أن يقبل الهوان مرة أخرى، وإن كان ظاهر الأمر غير ذلك، وما هذا الصمت الشعبي المطبق إلا رد فعلي وقتي على الدبابة والمدفع الموجهين في صدور الأبرياء، ولكن دروس التاريخ تعلمنا أن الصمت لن يستمر طويلا، وأن إنسانا حاربته في مستقبله، لن يسكت على هدم حاضره، وأن الصمت الشديد، تعقبه هبّة لن تبقي ولن تذر من الظالمين أحد.
إن الشعب اليوم وهو غير آمن على حياته وعلى حرياته، وعلى طعامه وشرابه، وعلى مستقبل أبنائه، غير قادر علي استكمال احتياجات يومه، لهو شعب له كلمة لم يقلها بعد، لكنني على ثقة أنها ستكون كلمة مدوية لن تترك للنظام فرصة للاعتذار، أو إعادة خداعه مرة أخرى.
وكلمتي إلى شعب مصر الحر، إلى أحرار يناير الذي فقدوا أمام أعينهم إخوانهم، وأصدقائهم، ومعارفهم، ومجهولين لم تلتقهم إلا بالتحرير فتعاهدوا معا على عدم الرجوع إلا بالحرية أو الشهادة.. أن يلملم جراحه، ويوحد كلمته، ويجمع أمره، ويقرر البدء في مواجهة لن تكون عنيفة، فالعسكر برغم آلتهم إلا أن أنفاسهم قصيرة، ولن يقووا على مواجهة شعب قرر أن ينتزع حريته.. شعب وعى الدرس جيدا بعدما توالت عليه الدروس البليغة.
يا شعب مصر الحر، يا أحرار يناير، يا أهل الشرعية والثبات، والله إن رعب النظام من وحدتكم وكلمتكم مضاعف بالنسبة لخوفكم منه، وما هي إلا خطوات يجب أن تتخذوها ثم تنعمون بحريتكم وتبدأون في بناء بلادكم من جديد.
يا شعب مصر، إن الخطب أليم، والمسألة ليست رفاهية، والقضية لا تخص فئة دون فئة، فقد باع النظام الجميع دون أن يفرق بين مناهض له أو مؤيد، لقد قال الجميع فيكم كلمته ولم تبق سوى كلمتكم فقولوها.. أسمعوا العالم أنكم أحياء تقررون مصيركم، وأنتم قادرون على قولها.
فلله قولوها
لمستقبل أبنائكم قولوها
لحاضركم المظلم قولوها
للتاريخ قولوها