جاءت أزمة
الليرة التركية لتلقي بظلالها على العديد من الإجراءات الحكومية، لا سيما في مجال السياسة النقدية للحيلولة دون تدهورها، وقد نجحت الحكومة فعلا في الحد من هذا التدهور في المدى المنظور. ومع اتفاقنا مع معظم ما اتخذته الحكومة من إجراءات، فإن الإجراء الذي كان أكثر مفاجأة هو
رفع سعر الفائدة بنسبة 6.25 في المئة دفعة واحدة، ليصل سعر الفائدة إلى 24 في المئة. ومع عدم إيماننا أساسا بسعر الفائدة، واتفاقنا على استخدامه وفقا للحاجة العامة للحيلولة دون تدهور سعر صرف الليرة التركية، ولكن قد يكون صانع السياسة النقدية التركية أراد من ذلك ضرب عصفورين بحجر واحد، من خلال إعطاء صورة إيجابية للعالم باستقلالية البنك المركزي، فضلا عن جذب أموال ساخنة تزيد من عرض الدولار وتستثمر بالليرة في ظل ارتفاع معدل سعر الفائدة؛ مقارنة بأسواق أخرى لا تنعم بذلك الاستقرار رغم الارتفاع الباهظ لسعر الفائدة بها كالأرجنتين، أو دول ذات سعر فائدة أقل ولكنها تفتقر أيضا إلى الاستقرار كمصر.
ومع إيماننا بخطورة رفع سعر الفائدة بصورة باهظة وما يترتب عليه من زيادة تكلفة الاستثمار، والإنذار بالدخول في مرحلة ركود، فضلا عن عدم تحقيق قيمة مضافة من الأموال الساخنة. ولكن لعل صانع السياسة النقدية اتخذ تلك السياسة من خلال استراتيجية وضعها لخفض سعر الفائدة مستقبلا، وخروج تلك الأموال في وقت يكون عظم منافعه في الفترة القصيرة منها بتعافي لليرة واستقرارها، لا سيما في ظل تعليمات منح الجنسية التركية للمستثمرين بطرق ميسرة ولها قدرة على زيادة عرض الدولار في السوق التركي.
ومع ذلك، فإن
تركيا بحاجة ماسة إلى تفعيل نظام
المدفوعات الثنائية والمتعددة الأطراف لا سيما وأن الفرص لديها متاحة لذلك في ظل
سياسة العقوبات والعداء المكشوف من الولايات المتحدة الأمريكية تجاه تركيا وإيران وروسيا والصين، بل والاتحاد الأوروبي، حيث إن تفعيل هذا النظام يتفق ومصالح تلك الدول مجتمعة، ويحيد من الدولار الأمريكي، ويخفف كثيرا من مخاطر سعر الصرف، ويسهم في توفير السيولة، وتحقيق الاستقرار.
ونظام المدفوعات الثنائية هو نظام ثبت فعاليته
لتسوية المبادلات التجارية باستخدام العملات المحلية. وعلى سبيل المثال، فإن المصارف المركزية في الدول الآسيوية الأساسية، كالصين، والهند واليابان وكوريا الجنوبية، قد أسست خطوطا واتفاقات مبادلات عملات محلية ثنائية أو متعددة الأطراف ( Multilateral and Bilateral Currency Swap Lines and Agreements)، بين بعضها البعض، أو مع شركاء تجاريين آخرين. كما أن مجموعة البريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب أفريقيا) عملت على زيادة
التجارة البينية بالعملات المحلية. كما أسست الصين وروسيا آلية لتسوية تجارتهما البينية بالروبل واليوان، فضلا عن اتجاه تركيا وروسيا نفس المنحى وإن كان بنسب متواضعة.
ولعل التجربة الدولية الأكثر اهتماما في ما يخص تسوية المبادلات التجارية بالعملات المحلية هو اتفاقية الائتمان والمدفوعات المتبادلة (Agreement on Reciprocal Payments and Credits) في أمريكا اللاتينية، والتي تم توقيعها في أيلول/ سبتمبر 1965، وتم تطبيقها في منتصف 1966، وتعديلها في آب/ أغسطس 1982 لتصبح (Latin American Integration Association Payments Agreement). والتي عملت على تسهيل المدفوعات التجارية الإقليمية عبر آلية لتعويض المدفوعات (Payments Compensation)، بهدف تخفيض مبالغ الدولار الأمريكي المطلوب للتجارة الإقليمية، ومن ثم الحفاظ على
الاحتياطيات الأجنبية.
فمن خلال هذه الاتفاقية، يتم تسجيل تجارة السلع والخدمات بين الدول الأعضاء من قبل البنوك المركزية، والتي تعمل كغرف مقاصة للمدفوعات، وفي نهاية كل أربعة أشهر (فترة التعويض)، تتم تسوية الفروق في حسابات في حسابات الدول الأعضاء.
وفي هذا الإطار، فإن تركيا يمكنها تطبيق نظام المدفوعات بصورة ثنائية أو متعددة، حيث تتم تسوية المدفوعات الدولية الناجمة عن معاملات التجارة الثنائية من قبل البنوك المركزية للدول الأعضاء، بما فيهم تركيا، والمتعلقة بتبادل السلع والخدمات خلال فترة معينة، ولتكن ثلاثة أشهر. ومع نهاية تلك المدة التي تمثل فترة المقاصة يتم تسوية الرصيد الإجمالي فقط لكل بنك مركزي بالنسبة للبنوك المركزية الأخرى، حيث يتم فيه التحويل أو التلقي، بحسب ما إذا كان لديه رصيد عجز أو فائض. وبذلك تتمكن تركيا وغيرها من الدول الأعضاء تعزيز تجارتها البينية، فضلا عن تخفيض تدفقات العملات الأجنبية الخارجية فيما بينها، وعدم الرضوخ لمخاطر سعر صرف الدولار الأمريكي.