هذا عنوان
تجاري "بحت"، فقد فكرت في عنوان آخر أكثر دقة؛ هو "رجوع الشيخ
رسلان"، على وزن "رجوع الشيخ إلى صباه".. ودقته مستمدة من أنه
تعليق على قرار وزارة الأوقاف بعودة الشيخ للخطابة، بعد
قرارها بمنعه، حيث أن
المنع لم يستغرق سوى أسبوع واحد!
"حكايتي
مع الشيخ رسلان"، لا تعبر عن كل المقال، فحكايتي معه تأتي في سياق أن الشيء
بالشيء يُذكر، فالكلام - كما قالت العرب - يجر بعضه بعضاً. أول مرة سمعت فيها باسم
الشيخ محمد سعيد رسلان، كانت بعد حوار مطول على صفحة كاملة، أجراه صحفي متدرب التحق
بالعمل بجريدة "الأحرار" حديثاً، وقد جاء إلى مكتبي بصحبة رئيسه
المباشر، وهي طريقة معروفة ومستهلكة عندما يريد رئيس قسم بأي صحيفة لديه أن يزكي
أحد المحررين عند رئيس التحرير!
كان
الحديث عن أن الزميل أجرى حواراً مع الشيخ "محمد سعيد رسلان"، وبطريقة
توحي بأنه "خبطة صحفية"؛ خفف من قيمتها سؤال فاتر وجهته لهما: ومن محمد
سعيد رسلان؟ وجاء الرد: إنه داعية سلفي مشهور. وتقبلت الأمر لكن بدون حماس، فنحن
في مرحلة ما بعد الثورة، حيث تابعنا سيولة في الأفكار والأشخاص، فعرفنا أسماء لم
نكن نعرفها، واشتهرت أفكار كانت بعيدة عن مسار السياسة، وبدا السلفيون لأهل
السياسة بأفكارهم وشيوخهم كما لو كانوا اكتشافات حديثة، وفي بعض الأحيان كانت
رموزهم تبدو كما لو كانت اختراعات توصلت إليها البشرية تواً. ورغم اهتمامي بظاهرة
الإسلام السياسي ورموزها، فلم أكن أعرف كائنات مثل "ياسر برهامي"، إلا
بعد الثورة، فما العجب أن يكون شيخ مهم اسمه الشيخ محمد سعيد رسلان، ولا يقلل من
مكانته لدى أنصاره أنني لا أعرفه!
ولأنهما
قالا: إنها "خبطة"، فقد طلبت منهما أن يغادرا مكتبي وتوليت بنفسي مراجعة
الحوار، وكتابة عناوينه، ليكون ضمن موضوعات "العدد الأسبوعي". لكن حدث
ما لم أتوقعه، فقد تلقيت اتصالات كثيرة ممن قالوا إنهم مساعدو الشيخ، وأنه ينفي أن
يكون قد أدلى بهذا الحوار؛ لأنه أصلاً يقاطع الإعلام، ولهذا السبب فإنه لم يكلمني
بشكل مباشر. وأنا أفهم هذه الأفكار، فقد كنت أعرف شيخاً يحرّم "المياه
الغازية"، كما يحرم التعامل مع الصابون (م 12).. لم يكن قد ذاع الصابون
"لوكس"، وإن شاهدته في وقت لاحق يشرب زجاجة بيبسي أمام المصلين، ويعلق
على هذا ضاحكاً بنكتة شائعة عن جدار الشيخ، وكيف أن أحد الناس سأل شيخاً عن حكم
الدين في جدار بال عليه كلب، فأفتى بهدم الجدار. لكن الرجل نبهه بأنه الجدار الذي
يفصل بين منزليهما؟ فكانت الفتوى: قليل من الماء يطهره!
كان الشيخ
المحرم والمحلل في وقت لاحق، هو الشيخ يوسف البدري رحمه الله !
ولهذا لم
تدهشني فكرة أن الشيخ رسلان لا يتعامل مع الإعلام وأهله، أيضاً لم أجد نفسي مطالباً
بمسايرة "مساعدي الشيخ"، وهي وظيفة جديدة بالنسبة لي، فأنا أعرف اصطلاح:
أتباع الشيخ، أو تلاميذه، أو دراويشه، لكن ماذا يعني "مساعدو الشيخ"؟ وما
هي صفتهم القانونية؟ لا سيما وأن الحديث بالثقل الديني الذي قرأته لا يمكن أن يكون
من اختراع "محرر" مهما كانت ثقافته الدينية!
كنت في
نقابة الصحفيين عندما أقدمت عليّ مجموعة من الزملاء لم تكن لي بهم سابق معرفة، وبعد
أن تعارفنا، نقلوا لي أسف الشيخ محمد سعيد رسلان؛ لأن الحوار الذي نشر على صفحة
كاملة لم يدل به، ولم يحدث أن التقى بالصحفي الذي نُشر اسمه على أنه محاور للشيخ،
وبدأت أخذ الأمر بجدية!
في اليوم
التالي، اتصل بي أحد مساعدي الشيخ أيضاً، وهنا طلبت منه أن يرسل الشيخ رسلان
تكذيباً عبر الفاكس، بما يريد نشره، وهذا حقه القانوني، لكن من حقنا أيضاً التعقيب
عليه. وانتقل الأمر من النفي الكامل إلى النفي الجزئي، عندما سألت: هل هذا الكلام
المنشور ليس كلامه؟ فكان الجواب: أن محرركم طلب مقابلة صحفية، لكن الشيخ الذي يرفض
التعامل مع الإعلام والإعلاميين، اعتذر عن الطلب، وأن الكلام المنشور يخصه، لكنه
منقول من عدة خطب له، كتبها صاحبنا بالنص، ووضع على كل جزء سؤال. وهنا اتضحت
الرؤية بالنسبة لي!
وقد تلقيت
تكذيب سعيد رسلان، فقد استدعيت المحرر المتدرب، لأخبره بالأمر، لكنه أكد على سلامة
موقفه، وأن المقابلة الصحفية كان مسجلة، وطلبت منه دليل الإثبات، وفي كل يوم يدعي
أنه نسيه في منزله، فقد كان يعتمد على آفة النسيان، لكنني حذرته بأن التكذيب سيكون
في "العدد الأسبوعي" أيضاً، فإذا لم يأت بالدليل فسوف أعتذر كتابة،
وسأنشر أن الجريدة استغنت عن خدماته، فلا يليق به أن يعمل في مجال
الصحافة بعد
ذلك، ونشرت التكذيب، والاعتذار المصحوب بأن من ورطنا في هذا لم تعد تربطه صلة بـ"الأحرار"!
بعد ذلك
فوجئت بالصحفي الشاب، وقد انتقل إلى صحيفة أخرى، والتي نشرت له "مغامرة
صحفية" على صفحتين، وبعناوين زاعقة في الصفحة الأولى، عن "المحرر
الشاب" الذي اخترق المكتب الإعلامي للإخوان ولحزب "الحرية
والعدالة"، ونقل تفاصيل عملية الاختراق. وكان النشر ضمن الحملة الإعلامية ضد
حكم الرئيس محمد مرسي. ومساء صدور العدد، ظل يتنقل من قناة إلى قناة، ومن فضائية
إلى أخرى، للحديث عن هذا الاختراق العظيم، لوكر من أوكار الجماعة الإرهابية!
ولأسباب
مرتبطة بالغيرة على المهنة، ولأني رأيت في هذه الحملة أنها تستهدف في الأساس ثورة
يناير وما أنتجته من أثار، فقد اتصلت بثلاثة من صحفيي الإخوان، وأخبرتهم بحقيقة
الفتى، وأن مجرد نشر ما نشرناه من اعتذار في "الأحرار" وبدون تعليق
يفقده الثقة والاعتبار، لكنهم كالعادة تعاملوا مع الأمر ببرود وعدم اكتراث!
وهي طريقة
لها عندي ما يبررها، فربما كان الزملاء بعيداً عن المشهد، والجماعة بعد ثورة لم
تعط العيش لخبازه في مجال الإعلام، لا سيما من صحفيي الجماعة، ولكنها استدعت
"أوائل الثانوية العامة" ممن التحقوا بكليات الطب والهندسة، ليتولوا
الأداء الإعلامي، وعندما كانت تحدث مشكلة بين القوم والزملاء المكلفين بتغطية حملة
الرئيس محمد مرسي، كنت أجدني في أزمة، لا سيما إذا سألتهم عن أسماء من عندهم من
أعضاء الحملة لأتحدث معهم، فاكتشف أنني لا أعرف منهم أحدا، ومن المؤكد أنهم لا
يعرفونني!
المبرر
الثاني لهذا الرد غير المكترث بشيء، يتمثل في أن القوم كان يتملكهم "غرور
السلطة"، وكانوا يظنون أنهم لن يهزموا بعد اليوم من قلة، فمعهم أغلبية الشارع،
ومعهم كذلك وزير دفاع بنكهة الثورة. فماذا في أيدي الآخرين؟ وماذا يمكن أن يأخذ
الريح من البلاط؟ فهم لن يهزموا بعد اليوم من قلة أو من ضعف!
المبرر
الثالث أنها التصورات الوهمية عن السلطة، فالسلطة تستدعي التجاهل المسكون
بالتعالي، على ما ينشر وما يقال، وهو التصور الظاهر، لكن من عملوا بالصحافة في
المرحلة السابقة يدركون أن نظام مبارك في قوته كان يهتم بكل ما ينشر، وأن مراكز
القوى في عهده كانوا يسعون للتودد ضد من يكتبون ضدهم. وقد لمست هذا بنفسي، وكنت في
اليوم الذي أكتب فيه ضد الرجل القوي كمال الشاذلي أغلق الهاتف، وأطلب من "سنترال
الجريدة" ألا يحول لي اتصالات خارجية. وذات يوم، أخبرني أمن "الأحرار"
بأن هناك من يريد مقابلتي، ورحبت بهم فإذا بهم رسل من كمال الشاذلي يحملون كتاباً
مغلقاً منه، فلما فتحته، وجدت طلباً واحداً بعد السلامات والطيبات: "افتح
التلفون"!
ولم يكن غلقه
خوفاً من رسائل غاضبة، ففي الحقيقة، أن حديث الرجل في المرات السابقة كان ودوداً
للغاية، وأنا إنسان تخجلني هذه اللغة، ولا أجد نفسي إلا في مواجهة الردود الحادة،
عندها "أتجلى"! وحالة عدم الاكتراث بالنشر كانت عندما حكم رجال مبارك،
وكانوا من المستشرقين أيضاً، فأخذوا بظاهر الأمر وهو ضرورة أن تتعالى السلطة على ما
ينشر ضدها.
المبرر
الأخير، أنه ربما ظن الزملاء بي ظن السوء، ووقر في وجدانهم أنني بما عرضت أتقرب
إلى هيلمانهم بالنوافل، ودور أهل الحكم أن يتعالوا على من يقفون بأعتابهم، فكانت
الردود غير المكترثة والمسكونة باللامبالاة!
ما علينا،
وقد ذهب بنا حديث الذكريات بعيداً، فالشاهد أن الشيخ سعيد رسلان بزغ نجمه في حكم
الرئيس محمد مرسي، واللافت أن قراراً بمنعه من
الخطابة لم يصدر في هذه الفترة، فقد
كان الرجل يخطب ويهاجم، ويمثل بخطابه ركنا من أركان الثورة المضادة، والقوم لم يكترثوا
أيضاً. لا تكلمني عن حرية الرأي، فالمنابر ليست صحفاً تحتمل كل هجاء، وكل انفلات،
أنتجته فوضى المنابر في مرحلة بعد الثورة!
والشيخ
سعيد رسلان الذي لم يكن "يطلع على الإعلاميين" صارت خطبه تنقل عبر
السوشيال ميديا وهو يتقرب للسيسي زلفى، وهو يهاجم الإخوان، ويدعو إلى مقاطعتهم،
وحصارهم، وعندما يصدر قرار من الأوقاف بعزله، فلا بد أن يثير هذا علامة استفهام!
في نظام
مبارك كان لمثلي أن يفهم فلسفة القرار، فهناك سقف للشهرة ليس مسموحاً لكائن من كان
أن يتجاوزه، وإن أحب الحاكم ومات عشقا في دباديبه! وتزداد الخطورة كلما كان صاحب
الشعبية الجماهيرية يملك فكراً دينيا؛ وإن كان يدعو لعبادة الحاكم من دون الله!
ولهذا فقد
أمكن فهم التضييق على الطرق الصوفية في نهاية عهد مبارك، مع أن التصوف توجها دينيا
مريحاً لأي حاكم. وقد فهمت لماذا أجبرت مباحث أمن الدولة "عمرو خالد" صاحب
الخطاب الديني الرقيق، في "رقة المرحومة فاتن حمامة في أفلامها"، على
مغادرة البلاد، كما طردت الصوفي "الحبيب الجفعري"، ومذهبه يقود لترك ما لقيصر
لقيصر، وما لله لقيصر أيضاً.
وكان يمكن
فهم أسباب منع "رسلان" من الخطابة، وإن دعا
للتسبيح باسم السيسي قياماً وقعودا، وقبل طلوع الشمس وأدبار السجود، لكن غير
المفهوم هو عودته السريعة، فلم يغب عن منبر مسجده سوى جمعة واحدة!
إنها سلطة
اللامعقول!