أخطأ الكاتب السعودي جمال خاشقجي حين دخل مبنى قنصلية بلاده في إسطنبول، على الرغم من شعوره بوجود خطر يهدده. وربما ظن أن هؤلاء القوم لا يمكن أن يفعلوا حماقة من هذا القبيل وبهذا الحجم في الأراضي التركية، أو اعتقد بأن تأييده لبعض "إصلاحات" ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان واستخدام أقصى درجات الليونة في انتقاد أخطائه؛ يشفعه لدى الذين يلاحقونه كي يسكتوه ويكسروا قلمه. ودفع خاشقجي ثمن هذا الخطأ بحياته.
وأما قتلته (إذا صحت المعلومات بشأن تصفيته)، فقد ارتكبوا خطأ أكبر، حين استخفوا بتركيا واختاروا إسطنبول مسرحا لجريمتهم البشعة. ومما لا شك فيه أنهم سيدفعون ثمن هذا الخطأ القاتل غاليا، بدءا ممن أمر وخطط ووصولا إلى من نفَّذ، ليتعلموا أن تركيا ليست تلك الدولة التي يمكن أن يقوموا بمثل هذه العمليات القذرة في أراضيها، دون أن يتعرضوا للملاحقة والمحاكمة والعقاب. ويا ترى، أي غبي ذاك الذي قال لهم إن بإمكانهم أن يرتكبوا هذه الجريمة في تركيا؛ لأنها ليست كالولايات المتحدة أو بريطانيا؟!
تركيا دولة قانون ومؤسسات، ولا ينتظر أحد منها الانفعال والاندفاع، ولكن ذلك لا يعني أنها سوف تتساهل في قضية تمس أمنها القومي وسيادتها الوطنية. وما حدث في إسطنبول هو اعتداء على سيادة تركيا وإساءة إليها، قبل أن يكون خرقا للمواثيق الدولية والأعراف الدبلوماسية.
الدول الغربية والأمم المتحدة تطالب السعودية بكشف الحقائق في قضية خاشقجي، إلا أن المسؤولين السعوديين يتهربون من ذلك، ويقدمون حججا أوهن من بيت العنكبوت، في محاولة بائسة للتنصل من المسؤولية، كقولهم إن الكاتب السعودي غادر مبنى القنصلية بعد فترة وجيزة من دخوله، ولكن كاميرات المراقبة الموجودة في المبنى لم تكن تسجِّل دخوله وخروجه!
ليس هناك مقر دبلوماسي في العالم لا تسجِّل فيه كاميرات المراقبة. وحتى الأسواق ومحطات البنزين ومرافق أقل منها أهمية؛ كاميرات المراقبة فيها تسجل على مدار الساعة، ويتم الاحتفاظ بتلك التسجيلات لأيام. وإضافة إلى ذلك، نشرت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية صورة تظهر خاشقجي وهو يدخل مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول، لتضع الكرة في ملعب الرياض.
الإعلام السعودي المرتبك يتحدث عن "مسرحية" و"مؤامرة" تستهدف المملكة، إلا أن هذا الادعاء المضحك يذكِّرنا بذات الدعاية التي حاول تنظيم الكيان الموازي الإرهابي ترويجها بعد فشل محاولة الانقلاب في صيف 2016. وإن كانت هناك مسرحية ومؤامرة، فإن من عطل كاميرات المراقبة ذاك اليوم، ومنح كافة العاملين الأتراك في القنصلية إجازة لمدة يومين؛ لإبعادهم عن مسرح الجريمة، وأتى بكل هؤلاء الرجال إلى إسطنبول على متن طائرتين ليلتقوا في مبنى القنصلية في ذات اليوم الذي دخله خاشقجي، ثم أعادهم إلى القاهرة ودبي، هو الذي يكتب المسرحية الرديئة ويلعبها، لا تركيا.
رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان، في مؤتمر صحفي عقده الاثنين مع رئيس الوزراء
المجري، فيكتور أوربان، خلال زيارته لبودابست، قال: "متابعة هذه القضية واجب علينا سياسيا وأخلاقيا، ومن المستحيل أن نتجاهلها"، مشيرا إلى أن مسؤولي القنصلية السعودية بإسطنبول عليهم أن يثبتوا أن خاشقجي غادر المبنى.
تصريحات أردوغان هذه تؤكد أن تركيا اتخذت قرارا على أعلى المستويات لمتابعة قضية خاشقجي. ولن تكون هناك مفاوضات ولا مساومات، غير كشف الحقائق وتقديم المجرمين إلى العدالة. كما أن موقف المعارضة من القضية يميل إلى تأييد الخطوات التي ستتخذها الحكومة من أجل معاقبة المتورطين في الجريمة. وفي تعليقه على اختفاء الصحفي السعودي، قال رئيس حزب الحركة القومية، دولت باهتشلي، إن تركيا ليست ساحة لأساليب العصابات وتصفية الحسابات، مطالبا القنصلية السعودية في إسطنبول بإثبات خروج خاشقجي من مقرها.
قضية "اغتيال" خاشقجي في القنصلية السعودية بإسطنبول لها أبعاد عديدة، منها ما يتعلق بتركيا وسيادتها، ومنها ما يهم العالم الحر والمجتمع الدولي. ويتوقع أن تتريث أنقرة حتى ينهي القضاء تحقيقاته، ويكتمل الملف، كي لا تبقى فيه ثغرة قانونية قد تؤدي إلى إفلات المجرمين من العقاب. ومن المؤكد أن أنقرة ستقوم بما يجب عليها للرد على الاستخفاف بأمنها وسيادتها، كما أنها ستضع الملف أمام وجدان العالم، بكل ما يحمل من أدلة دامغة، ليقوم بما يجب عليه من أجل الحفاظ على كرامة الإنسانية.