لست "أنيس منصور"، الذي كان في ذروة الأزمات السياسية، يكتب بعيداً عن السياسة.. عن النظافة في شوارع القاهرة، أو بداية اختراع البنطلونات الجينز!
وفي المقابل، فإن الكتابة في
قضية الصحفي السعودي "جمال خاشقجي" محفوفة بالمخاطر، وقد تدخل في باب المغامرة.. وعندما تشح الأخبار، فتكون أشبه بضرب الودع، ومطالعة الكف، وقراءة الفنجان!
في حالة "أنيس منصور"، فقد أخبرني الكاتب الدكتور "محمد إسماعيل علي" أن سكرتير "أنيس" أرجع له الأمر إلى أن الكاتب الكبير يكتب عموده اليومي في "الأهرام" على مدار الشهر في جلسة واحدة، وعندما يفكر في الكتابة عن الحدث المهم، يكون بالتالي قد صار في في حكم خبر كان. فالتجاهل لم يكن هروبا من السياسة أو التعالي على الأحداث. وقد مات "أنيس منصور"، كما مات "محمد اسماعيل علي"، وربما مات سكرتيره الذي لا أعرفه، وقد أصبحت مثل "هيكل"، كلما ذكر اسم أحد في موضوع كان الدعاء "الله يرحمه"!
أما في حالة "جمال خاشقجي"، فالكتابة تكون بأن يحلل الكاتب ما توافر من معلومات، ليخرج منها باستنتاجات. ونحن في مواجهة قضية لا نعرف فيها المعلومات من الأكاذيب، ولا نعرف ما إذا كان
الإعلام فاعلاً أم مفعولاً به. فبعد شح في الأخبار على مدى أربعة أيام، تواترت الأخبار العاجلة عبر وكالتين للأنباء: "رويترز" و"الأناضول"، وقد خف بث الأخبار حد التوقف بعد خطاب الرئيس
التركي طيب رجب أردوغان، وحتى كتابة هذه السطور!
ونتيجة شح الأخبار من مصادرها المعلنة، فقد كانت فرصة البعض في تقديم أنفسهم بأنهم خبراء يعلمون تفاصيل القضية، من مصادر عليا، قد تكون الرئيس التركي ذاته، الذي سلم جثمان الفقيد للمحلل الذي ليس مطلوباً منه أن ينتج الأخبار، انما يحلل ما توافر منها، لكنها الغاوية، في قضية اختلط فيها الحابل بالنابل، وصرنا لا نميز بين المحلل والمراسل الصحفي، وبين كاتب الخبر والمعلق عليه، فقد اختلطت الأوراق، والتفت الساق بالساق. وأنت لا تشاهد صحفيا يمكن أن تحاسبه مهنياً أمام الرأي العام إذا أخطأ، إنما أنت أمام منتحل صفة. وفي جو الإغراء هذا، صار تويتر هو أكبر منتج للأخبار في هذه القضية، وهو ما اعتبره البعض كنزاً، فرددوا المنشور عليه بصياغات مختلفة، "لزوم التجويد"، فاتهم أن مواقع التواصل الاجتماعي ليست من المصادر المعتمدة للأخبار!
طبيعة عمل وكالات الأخبار، تحتم أن تظهر الوكالة ويختفي اسم الصحفي، والأصل في الأشياء أن تحافظ الوكالات على مصداقيتها، فلا تنشر أكاذيب، ولا تخترع أخبارا، ولا تستغل أداة في تمرير ما يراد تمريره. وفي هذه القضية، فإن هذه الوكالات، بل ومكاتب الفضائيات في إسطنبول، لم تجر مقابلة مع خطيبة "جمال خاشقجي"، السيدة "خديجة"، على أهمية روايتها في الحدث، وانما فازت بذلك قناة "الجزيرة مباشر"، ومن خلال منتج للأخبار في مقرها بالدوحة، فقد اهتمت الوكالات بما هو أهم، وهو محاولة فك لغز الجريمة، لنواجه يوم السبت الماضي بسيل من الأخبار العاجلة، المنسوبة في معظمها لمصادر في الشرطة التركية، كان أهمها أنه تم
العثور على جثة خاشقجي ملقاة في أحد الشوارع بالمدينة، وأن هناك خمسة عشر شخصاً جاؤوا من بلدين مختلفين، ووصلوا للقنصلية وقت وجود "جمال خاشقجي" فيها، ثم غادروا في نفس اليوم، ومن بينهم مسؤولون سعوديون. وفي اليوم التالي، قطعت وكالة الأناضول بأنهم جميعهم من الشرطة
السعودية، ونسبت هذا إلى مصادر في الشرطة التركية أيضاً!
ومما قيل إن الرئيس التركي، سيعلن في اليوم التالي وقائع القضية، في مؤتمر صحفي، تم تحديد موعده بالساعة الثانية ظهراً، بتوقيت أم القرى ومن حولها، وانطلق من هذا الخبر البعض ليفتي، بأن الخطاب سيكون حاداً وشديد اللهجة، وسيقرر خلاله قطع العلاقات بالمملكة العربية السعودية وسحب السفراء، لنكتشف أن هذا الخطاب مقرر سلفاً، وأنه خطاب في مؤتمر حزبي. وبعض المعلقين الأتراك، كانوا يتحدثون بطريقة توحي بأنه الخطاب الحاسم في القضية، وإن نفوا علمهم بالأمر، لنكون أمام حالة من الخداع ليست مسبوقة!
في اليوم التالي (الأحد)
خطب أردوغان، وكانت مناسبة عظيمة والعالم يسترق السمع له، في انتظار إعلان تفاصيل
اغتيال الصحفي السعودي، ثم يقرر قطع العلاقات وسحب السفراء، فتحدث عن جانب من الإنجازات التي تحققت لتركيا على يديه، ولو أنفق ما في الأرض جميعاً، لما تمكن في استدعاء العالم لسماعه كما حدث في هذا الخطاب!
وعقب خطابه، وقف مع الإعلاميين الذين سألوه عن هذه القضية، وأعلن ما فهمنا منه أن القصة لم تتم فصولاً، وأن الأمر مؤجل إلى حين عودته من سفره للخارج، ثم طمأن الناس بطريقة حمالة أوجه، فلا نعرف هل يقصد فيما يختص الضحية أم فيما يعني سير التحقيقات. ولأن الجميع صاروا صحفيين، وذابت المسافة الفاصلة بين الصحفي والكاتب، فالجميع يسعى للسبق الصحفي؛ ليس من المصادر، ولكن بطريقة ضربة الحظ، فقرأنا لإحداهن تجزم بأن "جمال خاشقجي" لا يزال على قيد الحياة. والأمر ليس منسوباً لمصادر، أو إلى تحريات صحفية، لكنها الغاوية، وهناك من يجدون أن الجميع يتجه يميناً، فيحدفون يساراً، وعلى طريقة "صابت أو غابت"، فإن "صابت" فسوف يتحدث عن مصادره العليمة التي تمده كل يوم بأسرار الكون، وإن "غابت" فلكل حادث حديث، ولكل ضيق مخرج. فقد يقول إنه كان حياً لساعة إعلانه ذلك، لكنه جرى التخلص منه ولن تنقصه المبررات لاستكمال الراوية، ومن الأسلم تجاهل الأمر تماماً، فالناس تنسى، وقسوة الحياة وتواتر الأحداث أكبر من أن يترك لهم فراغا للاحتفاظ في ذاكرتهم بمعلومة ويتذكروا من قالها!
كل الأخبار المنشورة تنسب لمصادر في الشرطة التركية، ليبقى السؤال: إذا كانت هذه المصادر لا يوجد لديها ما يمنع من نشر بعض الأخبار، فلماذا لم تعلنها بنفسها؟ وهناك خطورة من ترك الأمور هكذا والساحة مفتوحة لمثل هذه التسريبات، التي لا تكون لخدمة الموقف التركي في الموضوع، فالمقطوع به منسوب للشرطة التركية؛ أن جمال خاشقجي قتل. دعك من قصة تقطيعه قطعاً صغيرة في حجم حبة الرز، فالراوي هنا أشار بما يوحي بأن معلوماته مصدرها أعلى سلطة في دولة الخلافة!
ومن هنا، فإذا لم يكن لدى السلطات التركية الدليل الكافي على مقتل "خاشقجي"، وأنها لم تعثر على جثته، فعند إعلان هذا ستكون في حكم المتواطئ الذي تستر على الجريمة، خوفاً من الجناة، أو تقرباً إليهم بالنوافل، وهذا لا يطعن في الصورة الذهنية للزعيم التركي!
اللافت هنا أن مصدراً رسمياً من الشرطة أو من غيرها لم يعلق على ما نُشر، بما في ذلك ما تأكد عدم صحته، مثل أن أردوغان سيعلن تفاصيل القضية في اليوم التالي، وسيقرر قطع العلاقات مع السعودية، وسيكون حاداً كحد السيف، وبعض الأخبار بثتها الأناضول ورويترز، وهناك من قام "بالتجويد" فألف وفبرك!
وهذا يقودنا إلى طرح هذا السؤال: هل الصحافة "فاعل" هنا، أم مفعول به؟ وهل لديها مصادر في بعض الأخبار، فخلطت عملاً صالحاً وآخر غير صالح، ودست أخباراً غير صحيحة وسط الأخبار الصحيحة؟.. أم أنه جرى استغلالها لصالح أطراف سياسية هنا أو هناك؟!
اللافت أنه بخطاب أردوغان قد تم التوقف عن بث أخبار جديدة؛ سوى خبر "الأناضول" عن تحديد هوية الخمسة عشر شخصاً الذين دخلوا إلى
القنصلية لحظة وجود "خاشقجي"، وتبين أنهم من الشرطة السعودية، فهل يمكن أن يكون هذا صحيحا؟!
إذا كانت القنصلية قد حددت موعداً لجمال ليتسلم الأوراق المطلوبة، وكان هذا الموعد هو يوم الثلاثاء الماضي، فإن هناك احتمالا ألا يحضر في الموعد المضروب، فلماذا قدوم هذه الشخصيات التي قيل في البداية من بلدين مختلفين في نفس اليوم، فلا يحضروا قبلها بيوم تحسباً لأي طارئ؟!
واذا كانت الوكالات لديها مصادرها في الشرطة، فلماذا لم تسأل عن فئة الطائرات التي حملت هؤلاء: خاصة، أم عامة؟!
وهذا التوقف عن بث أخبار جديدة (حتى كتابة هذه السطور)، لا بد أن يدفعنا للتساؤل: أين ذهبت مصادرها من الشرطة التركية؟!
في انتظار ما تسفر عنه الأيام، في قضية تصلح بكل تفاصيلها للتدريس في كليات الصحافة بدلاً من المواد العقيمة التي تدرس فيها. فإما ان تكون درساً في الوصول إلى الأخبار، وإما أن تنضم إلى الأخبار المنسوبة لمصادر مجهلة رجماً بالغيب، وبالتالي تصلح درساً في المنهى عنه مهنياً!
أتمنى ألا يكون الإعلام ومن انتحل صفة الإعلاميين جسراً لتمرير معلومات غير صحيحة لصالح جهة ما.