بعد
رحيل المخلوع يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2011ن كان من الطبيعي ارتفاع منسوب
المطالب والآمال التي علّقها جمهور
التونسيين ونخبهم على المسار الثوري. فالثورة (خاصة
بعد انتشار موجة الربيع العربي، وقبل ارتكاسها بفعل الثورات المضادة المدعومة من
المحور السعودي- الإماراتي برعاية صهيو- أمريكية)، قد وضعت التونسيين أمام ممكنات
تاريخية كانت من اللامفكر فيه أو مما يستحيل التفكير فيه في ظل نظام المخلوع، بل
طوال التاريخ السياسي للبلاد.
وبالنظر
إلى أسباب معقدة ليس هذا مجال تفصيلها، وجد التونسيون آفاق انتظارهم تنخفض بشدة منذ تولي السيد الباجي قائد
السبسي رئاسة الحكومة الانتقالية؛ التي أعقبت حكومتي محمد الغنوشي المرتبطين عضويا
بالمنظومة السابقة. فقد جاء السيد قائد السبسي (وهو من أركان نظام المخلوع في
بداياته) حاملا معه مشاريع للانتقال الديمقراطي، ولاستمرارية الدولة ولنمط
المشروعية وأسطورته التأسيسية؛ مشاريع لا علاقة لها بالثورة باعتبارها "لحظة
انكسار بنوي" وجذري في منظومة الاستبداد بلحظتيها الدستورية والتجمعية، بل
باعتبارها فقط لحظة فقدان توازن عابرة لمنظومة الحكم (نواتها الجهوية). وقد عرف
السيد قائد السبسي كيف يشتغل على التناقضات الأيديولوجية بين الإسلاميين
والعلمانيين، وعرف كيف يوظف الصراعات الهووية والمخاوف المشروعة للمواطنين في خدمة
استراتيجية المنظومة القديمة لإعادة التموضع والانتشار، بعد أن فرضت عليها اللحظة
الثورية إخلاء صدر المجلس ظرفيا (أي إخلاء واجهة المشهد العام) لحلفائها في اليسار
الثقافي بجناحيه السياسي والمدني- النقابي.
وبحكم
حالة الضعف البنيوي التي عاشتها الدولة بعد
الثورة، والاستضعاف الممنهج والمقصود
الذي عاشته أجهزة الدولة خاصة زمن الترويكا، وبحكم غياب أي قانون يجرّم تمجيد نظام
المخلوع أو ترذيل الثورة في وسائل الإعلام (لاتجاه النية إلى استدماج مكونات ذلك
النظام داخل ما يُسمّى بـ"العائلة
الديمقراطية" في حربها المفتوحة ضد
حركة النهضة)، عاش التونسيون حالة من الإحباط المعمّم، ومن التشكيك المشروع أحيانا
في "الثورة" والقائمين على مأسستها وإدارة مسار الانتقال الديمقراطي
فيها، وهي حالة كان محصولها نتائج انتخابات 2014 الرئاسية والتشريعية؛ تلك
الانتخابات التي أرجعت النواة الصلبة لمنظومة حكم المخلوع إلى واجهة السلطتين
التنفيذية والتشريعية بطريقة "ديمقراطية".
مهما
كان اختلافنا في تحديد المسؤوليات السياسية للقوى العلمانية والإسلامية في الوصول
إلى هذه الوضعية الكارثية من المنظور الثوري، بل حتى من منظور إصلاحي صرف، فإن
الواقع الجديد قد ساهم في ظهور خطابات ارتكاسية كثيرة، وهي خطابات تراوحت بين
التشكيك في مسار الانتقال الديمقراطي برمته، وبين التشكيك في الثورة ذاتها. ولكنها
على ما بينها من اختلاف، تتفق في دعوتها الصريحة حينا والمخاتلة أحيانا أخرى؛ إلى
"البيان رقم واحد"، أي إلى الانقلاب على المنجز الهش للثورة والعودة إلى
مربع "المستبد العادل" الذي لا يمكنه الاشتغال، إلا في ظل غياب المؤسسات
أو تدجينها دفاعا عن "المصلحة الوطنية العليا".
ومن
الواضح أنّ هذه الخطابات الانقلابية تستمد جزءا من شرعية وجودها من الفشل، أو الإفشال
المتعمد لمسار الانتقال الديمقراطي. فهي لم توجد في الفراغ، ولا يمكنها أن تكتسب
نوعا من التعاطف الشعبي المتزايد؛ إلا لأن النخب التونسية قد أوجدت بسلوكها
السياسي والنقابي والإعلامي ضربا من "القابلية الجماعية" لعودة
الاستبداد. ولكن من الواضح أيضا أن تلك الخطابات الانقلابية تكتسب شرعيتها من
مخاطبة الحاجيات الأساسية المباشرة للمواطن (الحاجة للطعام والأمن والخوف من
انعدام الاحترام)، مع إهمال متعمد للحاجيات الجماعية في المستوى المتوسط والبعيد.
ولو شئنا صياغة هذه القضية بشكل أوضح لقلنا؛ إن النزعات الانقلابية تُغلّب بصورة
قصدية الاحتياجات الفردية المباشرة على الاحتياجات المجتمعية، أي إنها تغفل بصورة
متعمدة احتياج مأسسة الثورة ومسار الانتقال الديمقراطي إلى وعي "متخارج"
مع المصلحة الفردية الآنية ومشغول بالمصلحة الجماعية، ولو في المدى البعيد. وهو ما
يعني أن هذه النزعات الانقلابية تجعل من الأنظمة الاستبدادية التي توفر الحد
الأدنى من الطعام والأمن (وتعيب الحريات وتعيد إنتاج
الفساد والتبعية) ضربا من
النظام السياسي "المثالي"، مقارنة مع نظام ديمقراطي "هش"
وعاجز عن توفير تلك الحاجيات (لأسباب تتعلق في بعد أول باختلالات وظيفية فيه،
وتتعلق في البعد الأهم بموقف القوى الإقليمية والدولية التي ترغب في تأبيد حالة
الهشاشة والتابعية دون الحاجة إلى إسقاط منظومة الحكم بتَونسة السيناريو المصري).
رغم
إيماننا بهشاشة الانتقال الديمقراطي في تونس، فإننا نؤمن بأنه يظل الحل الأمثل
لبناء جمهورية المواطنة وإرساء مقومات السيادة في المستوى الاستراتيجي. ففي ظل
تبعية مطلقة كرستها "الدولة الوطنية" منذ الاستقلالن لا مهرب من
ديمقراطية "جزئية"، ديمقراطية تحافظ على الحد الأدنى من حرية التعيير
والتنظم وتمنع التحام مكونات النظام السابق بعضها مع بعض، ديمقراطية تحافظ على أفق
تحرري يراهن على التراكم ويؤمن بالإنسان وبالتاريخ وبالمشترك الوطني، الذي لا يكون
خيارا سلطويا مسقطا، بل خيارا جماعيا توافقيا. كما أنّ وظيفة القوى الوطنية
والديمقراطية في هذه المرحلة لا يمكن أن تتجاوز "تحسين" شروط التفاوض
وخلخلة واقع التبعية وإضعاف اللوبيات المتنفذة، تحت أي غطاء جهوي أو أيديولوجي أو
مهني، أي إن مهمتها الأساسية هي تخفيف شروط الاستعباد، وفتح إمكان تاريخي للتخلص
منه ولو بعد أجيال. أما الحديث عن "تحرر وطني" كامل ونهائي، فهو أقرب إلى
حديث الخرافة وإلى المزايدات السياسوية التي لا تنفع إلا
في إعداد البرامج التلفزية، والبرامج الانتخابية ذات الصلاحية
و"المصداقية" المحدودة.
إنّ
الديمقراطية"الجزئية" والهشة، برغم عيوبها المعروفة، تبقى هي البديل الأوحد
عن حرب أهلية لن تكون عاقبتها إلا انتصار نزعات الإقصاء والاستئصال وإرساء نظام
كلياني شمولي (مهما كان المنتصر)، فالديمقراطية الحقيقية (على افتراض وجودها أصلا
حتى داخل مجال تداولها الأصلي في الغرب) هي شأن خاص بالدول "المستقلة"
وذات السيادة، أي تلك الدول التي تمتلك مقومات السيادة الاقتصادية والاجتماعية
والعسكرية والثقافية، ولا علاقة للديمقراطية "الحقيقية" بالكيانات
المعطوبة والتابعة؛ التي لا تمتلك من مقوّمات السيادة إلا بعض "التأنقات
اللفظية التي مدارها الفراغ". هل يعني هذا التطبيع مع "التبعية"
ومع وكلائها في المنظومة الحاكمة؟ هل يعني هذا انتظار التخلص من التبعية في ظل حكم
مهمته الأساسية "الحكم
في إطار التبعية"، وإعادة إنتاجها تحت شعارات متنوعة بل متناقضة ظاهريا؟ كيف
يمكن كسر شروط التبعية في ظل منظومة تابعة؟ كيف نمارس الضغط على النظام دون أن
نسقط الدولة؟ أي كيف يمكن أن نوسّع من هامش الحريات والمكاسب الاقتصادية دون أن
نلتقي موضوعيا مع أعداء الدولة، من الفوضويين والتكفيريين والشبكات الزبونية
المؤدلجة وغير المؤدلجة؛ تلك الشبكات التي لا تشتغل إلا باستضعاف الدولة بل بالسير
بها نحو "الدولة الفاشلة"؟
ولا
شك في أن القوى الراغبة في التغيير أو الإصلاح مضطرة إلى العمل ضد المنظومة، ولكن بالقوانين
المنظمة للعملين الحزبي والجمعياتي حتى لا يكون عملها "فوضويا" أو "جهاديا"يوجّه ضد الدولة وفلسفة
وجودها ذاتها. كما أنّ عليها استغلال هامش الحريات الفردية والجماعية والعمل على
ترسيخها وجعلها في منأى من النكوص والردة إلى مربع الاستبداد. وهو ما يعني عمليا ترسيخ
دور المجتمع المدني باعتباره قوة اقتراح ورقابة واحتجاج، لا باعتباره مجرد ملحق
وظيفي بالمجتمع السياسي أو بشبكات المال الفاسد. ولكن علينا دائما ألاّ ننتظر
النتائج في المدى المنظور، وعلينا ألاّ نجعل من ذواتنا ومصالحنا الشخصية مرجعا أو
معيارا لنجاح التغيير، أي إنّ علينا
أن نفكر بمنطق يتجاوز هواجس الأنا المفرد ومصالحه ورغباته "الآنية"،
بل يتجاوز حتى ارتباطاته وتضامناته الجماعية (جهويا وفئويا وأيديولوجيا) عندما
تكون معارضة للمشروع المواطني الاجتماعي الهادف إلى بناء الإنسان (التونسي أولا
وكل إنسان يجد نفسه في النموذج التونسي ثانيا)، وتحرير الكيان (التونسي أولا وكل
كيان يشترك معه في وضعية التابع أو الملحق الوظيفي باستراتيجيات تقسيم العمل حسب
المنظور الرأسمالي المعولم).