تواجه السياسات
الإماراتية في المحافظات الجنوبية لليمن تحديات غير مسبوقة، فيما يكتنف الغموض مصيرَ التحركات التي يقوم بها
المجلس الانتقالي الجنوبي، الذراع السياسية لقوى الأمر الواقع التي أنشأتها الإمارات في الجنوب خارج إطار السلطة الشرعية؛ وعلى الضد من جهود دعم الشرعية والمصالح العليا لليمن.
تراجع المجلس الانتقالي عن تهديداته بالانفصال كأمر واقع جديد، مستغلاً حلول الذكرى الـ55 لثورة الرابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 1963 لتحقيق هذا الهدف، والأمر يعزى على الأرجح إلى أوامر تلقاها هذا المجلس من أبو ظبي بناء على نصيحة من الرياض.
يبدو أن الحكومة الشرعية التي يحول تحالف الرياض-أبو ظبي دون عودتها إلى الوطن، ويضع العديد من العراقيل أمامها، خصوصاً في العاصمة المؤقتة عدن، ويمنعها من إدارة واستثمار الموارد السيادية،
لا تزال تملك المزيد من الأوراق التي تجعل الرياض على وجه الخصوص أكثر حرصا على عدم التماس الخطير مع الوجود الدستوري لهذه السلطة؛ في مرحلة لا تحتمل فيها السعودية المضطربة أية مغامرة غير محسوبة في
اليمن.
لكن قوة الحكومة جاءت هذه المرة من التحول الجوهري في المزاج الشعبي الجنوبي؛ الذي بات منفصلاً إلى حد كبير عن النشاط الذي يصل حد العبث للمجلس الانتقالي، خصوصاً وهو يكرس دوره كدمية تحركها أبوظبي؛ وتستخدمها مجرد ورقة وغطاء لطموحها الجيوسياسي المحمول على دور مزعوم في دعم الشرعية ومحاربة الإرهاب.
ووفقاً للمؤشرات التي يلحظها المراقبون، فإن المزاج الوطني الجنوبي يلتحم اليوم بموجة الرفض الشعبي العارمة لنزعة
الاستحواذ على الجغرافيا اليمنية من قبل السعودية والإمارات، ولسياسة التجويع التي أنتجتها الحرب غير محددة الأهداف والملامح، حيث تتجه أصابع الاتهام إلى تحالف الرياض-أبو ظبي؛ على قدم المساواة مع مليشيا الحوثي الانقلابية.
وفي الآن ذاته، تلتحم حركةٌ شعبيةٌ وطنيةٌ الملامح في تيار يهب من محافظة تعز غرباً، إلى المهرة في شرق البلاد، مروراً بمحافظات شبوة وحضرموت. والأمر هنا يتعلق بالفضاء الجغرافي والسكاني الأكثر أهمية في البلاد، على نحو يحمل على الاعتقاد بأن المشروع الإماراتي الجيوسياسي في جنوب اليمن يواجه بالفعل تحديات تنذر بالفشل المحقق.
فحينما
دعا المجلس الانتقالي قبل نحو عشرة أيام الشعب الجنوبي - الذي يدعي تمثيله - إلى الاحتشاد في مدينة عدن، مصحوباً بإغراءات
الانفصال، تبين لهذا المجلس وللإمارات التي تدعمه أن الشعب الجنوبي لم يكترث لهذه الدعوة، وهو أمر تسبب في حرج شديد؛ لم يمتلك معه الانتقالي سوى التراجع عن دعوته للاحتشاد بذريعة الوضع الاقتصادي الصعب الذي يحول دون قدرة الجماهير على موافاة المجلس إلى عدن للقاء القيادة بسبب كلفة الانتقال التي لا تتحملها ميزانية أنصار المجلس الانفصالي.
ثمة انقسام حتى داخل الفريق الجنوبي المحسوب على أبو ظبي حيال التحركات التي يقودها المجلس الانتقالي، تنطلق في بعضها من قراءة واقعية لحضور هذا المجلس وتأثيره المتواضعين، واللذين انحدرا إلى أدنى مستوياتهما خلا النصف الأول من هذا العام، وبعد أكثر من عامين على تأسيسه بدعم إماراتي.
وقد جاءت أقوى الانتقادات للمجلس الانتقالي الجنوبي من نائب الرئيس اليمني ورئيس الوزراء السابق خالد بحاح القريب من الإمارات، في حديث لإحدى الصحف الصادرة في عدن، بانتقاد دعوة الانتقالي "شعب الجنوب" للسيطرة على المؤسسات الإيرادية وفك الارتباط مع السلطة الشرعية.
فقد أبدى بحاح شكوكاً حيال "ما إذا كان المجلس (الانتقالي) واثقا من هذا أم لا، لكن هذا يضعه في موضع حرج، فإن نفذ البيان وسيطر على مؤسسات الدولة، فهو خسران؛ لأنه لن يقدر على إدارتها والسبب معروف، وإن تراجع كذلك فهو خسران؛ لأن ذاك سيخسر الكثير من الجماهير المناصرة".
ولاحظ بحاح أيضاً "أن النخب السياسية والثقافية في الجنوب لم تؤيد بيان (الانتقالي) بشكل كبير، وكذلك بعض المحافظات الجنوبية، لا سيما حضرموت والمهرة"، أيضا لم يظهر أي حزب سياسي في الجنوب مؤيدا لهذا البيان.
وإذا كان الرهان بالأساس ينعقد على الشعب في أي معركة سياسية، فإن ما يتعين ملاحظته هنا هو أن أبناء الجنوب، وبالأخص المتحمسين منهم للانفصال، قد أدركوا أن المجلس الانتقالي والتشكيلات العسكرية المرتبطة به
إنما كانوا يمارسون الخديعة بحقهم، خصوصاً بعد أن تحولوا طيلة الفترة الماضية إلى أداة قمع وبطش بيد الإمارات؛ تعتمد عليهم في تنفيذ سلسلة من الجرائم والانتهاكات ضد حقوق الإنسان، وإدارة السجون السرية والإعدام خارج القانون، إلى جانب دورات العنف المرعبة التي أعادوا إنتاجها في مدينة عدن، خصوصاً في كانون الثاني/ يناير الماضي بذريعة الثورة على الحكومة الفاسدة.