في ظل موجات الاستبداد العاتية التي تضرب المنطقة العربية، وفي خضم أعاصير الثورات المضادة المتوحشة التي تحاول السيطرة على الشعوب وتنفق المليارات في سبيل ترسيخ حكمها وإحكام قبضتها.. في ظل ذلك، ضرب اليأس جانباً هاماً من شبابنا، وأحاط الإحباط قطاعات من شعوبنا كانت دوما نصيرا للتغيير ومصدرا للاحتجاج.
هذه الحالة تستدعي منا التصدي لها كما تستلزم مناقشتها، فهي حالة عابرة نشأت في ظروف عصيبة كان من المتوقع أن تمر بها منطقتنا ولا ينبغي بحال أن نستسلم لها. فالشعوب أكبر من الطغاة، وأقدر على استيعاب فرعنتهم وتحييد غشمهم.
وعلى هذا الأساس يجب أن نرفض الادعاء بفشل
الثورة المصرية، كما نرفض الادعاء بفشل
الربيع العربي. أما لماذا رفضنا الادعاء بفشل الثورة المصرية، فذلك لعدة أسباب:
أولها: لأن طبيعة الثورات الشعبية تمتد لمراحل زمنية تطول أو تقصر ولا تستقر، إلا بعد أن تحقق طموح شعبها وأحلامه. وعلى هذا، فالحلم الذي أوجدته ثورة يناير لا يمكن للشعب أن ينساه، ولا يمكن للسلطات الاستبدادية أن تقتلعه، وإن عملت على تحويله لكابوس.
ثانيها: لأن الثورات الشعبية تختلف في أشكالها وأساليبها حسب طبيعة المجتمع وطبيعة ثورته والأهداف الكبرى والجامعة التي يسعي إليها. وفي مصر، نلاحظ أن المجتمع يستدعي الثورة بشكل أكثر بطئا لكنه لا يستسلم.
ثالثها: أن الأحداث التاريخية الكبرى ينبغي أن لا يكون الحكم عليها نهائيا في ضوء القراءات الأنية والمتعجلة لنتائجها، بل يتم تقويمها وفق حقب تاريخية طويلة نسبيا، حتى يكون الحكم على نتائجها أقرب ما يكون من الدقة والصحة.
رابعها: أن كل ثورة شعبية هي انتصار بذاتها، بغض النظر عن النتائج التي حققتها:
1- فالثورة على الظلم والقهر والتخلف والتبعية هي انتصار بذاتها؛ لأنها تبرئ الإنسان من كل ما يدنسه وما يشين خصائصه الأساسية بوصفه إنسانا.
2- كما أن الثورة من أجل الكرامة والحرية والعيش اللائق بالإنسان واجبة بذاتها؛ لأنها ضرورة تجعل الإنسان يتسق مع ذاته ومع خصائص خلقه المكرم، كما أنها تستقيم مع تطلعاته الفطرية.
3- كما أنها تمثل انتصارا للإنسان وللإنسانية في مواجهة محاولات وعمليات تبهيمه (تحويله لبهيمة لا إرادة لها)، أو تحويله لآلة (يتحرك وفق ميكانيزم الدفع والسيطرة والتحكم الآلي).
4- كما أن كل ثورة شعبية، مهما كانت نتائجها، هي خطوة نحو التحرر الكامل للمجتمع. فالثورات الشعبية يتسع أثرها وتتمدد وتتكامل نتائجها على المستوى الأفقي داخل ساحة المجتمع المترامية الأطراف والمتعددة الشرائح والطبقات، وتتفاعل مع المشكلات المتنوعة التي يتعرض لها والتحديات المختلفة التي يواجهها، حتى تصبح قدرا محتوما داخل أوسع مساحة ممكنة من المجتمع أو بالقدر الذي يستنفر الكتلة الحرجة.
5- كما أن الثورات الشعبية بطبيعتها تعتمد على تراكم نتائجها على المستوى الزمني في الحس والوعي الإنساني؛ حتى تكتمل أسبابها وتنضج شروطها، فتحقق النصر الكامل والتحرر اليقيني.
أما لماذا رفضنا الادعاء بفشل الربيع العربي عامة، فذلك يرجع للآتي:
- لأن أجواء الثورة لا تزال حاضرة ومؤثرة على المشهد الاجتماعي والسياسي.
- لأن الجماهير لا تزال تتطلع إلى أهداف الثورة، برغم عمليات تبشيعها وإثنائها عنها.
- لأن نظم الثورة المضادة متعثرة ومرتبكة على كافة المستويات، وخاصة على المستويين الاجتماعي والاقتصادي.
- فشل الثورات المضادة في تحقيق أي قدر من الاستقرار السياسي أو الأمني، بل إنها تزيد من حالة الاحتقان السياسي، وتتصرف وكأنها تعمد إلى نشر الفوضى الأمنية.
- عدم قدرة الثورات المضادة على إقناع الحلفاء الدوليين بأن قادتها يمثلون بديلا معقولا أو مقبولا لنظم الاستبداد البائدة، بل وفقدان أعصابها وتحكمها في تصرفاتها (كما في تهديد النظام المصري بقتل معارضيه في الخارج، وإقدام النظام السعودي على تصفيه جمال خاشقجي داخل قنصلية المملكة بإسطنبول).
كما أن الثورة المضادة وهي تنتقم من الشعب في محاولاتها المستميتة للامساك بزمام الأمور؛ إنما تهيئه للثورة مرة أخرى، فالشعوب لا تزال تتربص بالمستبدين، كما أن المستبدين لا يحكمون إلا من خلال مخطط كامل قائم على تربصهم بالشعوب واغتيالهم لكل احلامها.
كما أن غباء وفساد الدولة العميقة جعلها تتصور أن الرجوع بالبلاد للأوضاع السابقة على الثورات، وربما لأوضاع أسوأ منها، سيؤمن بقاءها (اتساع دائرة القمع والتعذيب وتلفيق القضايا)، وهو ما جعل أسباب الثورة حاضرة والشعوب أكثر جاهزية ربما أكثر من أي وقت مضى.