هل كان الصحفي والكاتب السعودي "جمال خاشقجي" يمثل خطورة كبرى على نظام بلاده حتى يتم استدراجه لقنصليتها في إسطنبول ثم التخلص منه؟
وهل يستطيع الأتراك، بداية من أعلى سلطة حتى الحكومة والجهات المختصة، فعل شيء يكافئ ويناهز ويناظر مقتل "خاشقجي" على هذا النحو بالغ المرارة والإهانة؟
أما السؤال الأول عما يمثله "خاشقجي" من خطورة على حكام بلاده حتى يتم التخلص منه على هذا النحو غير المسبوق في قنصلية بلاده في إسطنبول بتركيا، فهناك إجابات كثيرة حوله ملخصها يدور عن انشقاقه عن السلطة والنظام الحاكمين في بلاده، مع تبوئه وتوليه أرقى المناصب من قبل، ومعرفته أسرارا خطيرة عن بلاده. لكن هذا الافتراض يضاده أن الرجل الراحل كان يتحرك بسهولة ويسر هنا وهناك، بين
تركيا والولايات المتحدة الأمريكية.. وحتى في الأخيرة، كان يمكن قتله وتصفيته بسهولة في زاوية مظلمة أو ناحية مقفرة أو مضيئة وفي وضح النهار.
فلماذا اغتياله على هذا النحو؟
أكثر الآراء وجاهة تقدم سببا أسفل منه تفصيلة أكثر خطورة منه، أما السبب فإحراج النظام السياسي التركي ردا على تحديه للولايات المتحدة وإحراج رئيسها "دونالد ترامب" وعدم تسليم القس الأمريكي المحتجز في تركيا، كآخر مظاهر هذا التحدي، وهو ما ظهرت بوادر وأكثر للتخلي عنه مؤخرا. ودعاة مناصرة هذا الرأي يقولون بوضوح إن كاتبا ليبراليا علمانيا يجيد الإنجليزية بل يكتب في "واشنطن بوست"، مثل "خاشقجي"، ما كان نظام بلاده ليغتاله إلا برضى من السيد الأمريكي وضوء أخضر زاهٍ واضح!
أما ما أسفل التبرير الأخير - مما نوقن به - فهو أن "خاشقجي" يمثل روحا ونفسا آدمية نفخ الله فيها من روحه، لكنه لدينا ككل الأرواح التي تقتل وتستشهد آناء الليل وأطراف النهار من الروهينغيا في ميامنمار أو غيرها، أو المصريين في مصر أو خارجها، أو الليبيين أو الفلسطينيين، وهلم جرا.
وقبل أن يجرفنا التيار في الكتابة أكثر عن إجابة للسؤال الأول، فإن إجابة السؤال الثاني والأخير ستختصر علينا ذلك:
هل سيفعل الأتراك ما يساوي قتل الرجل الراحل في قنصلية أجنبية -بحسب العرف الدارج- لكن داخل البلاد وفي عاصمتها التاريخية. الواضح جدا والذي يبديه التدخل الإعلامي من وكالاتي رويترز والأناضول في مساء السبت الأول من تشرين الثاني الحالي، ثم تدخل أجهزة الإعلام التركية والعالمية على هذا النحو الهائل النادر ونقل الأخبار عنها وكأنها المصدر لا ناقلة له، وهذا التروي والانتظار الطويل من الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" وعدم مروره على الأمر من قريب أو بعيد في خطابه في الأحد الأول من الشهر الجاري، ثم تصريحاته المتفائلة لمّا سأله الصحفيون بعد الخطاب الذي شاهده العالم على أمل التطرق للحدث أن الإجابة بـ"لا".
من الواضح أن الحدث سيمر مرور الكرام على تركيا، وأن الأخيرة لن تفعل مثلما فعلت في اختراق الطيار الروسي للأراضي التركية أو في القصف الإسرائيلي للسفينة التركية المؤيدة لصمود غزة، فلن يتم طرد السفير السعودي ولا قطع العلاقات مع بلاده.
أما الإجابة عن السؤالين مجتمعين: لماذا تم القتل لرجل لا يمثل خطورة شديدة على نظام بلاده في داخل قنصليتها في تركيا؟ وهل تستطيع تركيا استرداد حقها؟
من الواضح أن الأمر الأكثر وضوحا في المشهد كله أن "خاشقجي" تم التخلص منه والسلام، وحدث ذلك في خطوة واضحة لا تراجع عنها ولا إمكانية لسحبها، وأن الضجة الإعلامية التركية من السبت (بعد أربعة أيام على وفاة الرجل) كانت في انتظار أن يكون حيّا يرزق، وأن ما بعد ذلك لن يوافق الضجة الأولى في شيء كبير أو غير يسير!
إن الرجل تم التخلص منه.. هذا كل ما في الأمر، مثلما يتم التخلص من عشرات الشرفاء في لحظة واحدة أو في أسابيع في هذا العالم الممتلئ بالظلم، في ظل غلبة الحضارة الغربية ونظامها المادي النفعي الربحي المنكر لكل قيمة أو دين. وأمر التخلص من "خاشقجي" انتهى، فلن يعيده (الرجل) شيء مهما كان، والأمر على حد سواء للسعودية أو تركيا (معا) ويبقى التفاهم حول طريقة إخراج الأمور إلى العلن بصورة تحفظ للدولتين ماء الوجه.
أما المعنى الخفي من الحدث كله فهو إشارة إلى أن أحدا ليس بآمن في المعمورة، وأن الناشط الخارج من بلاده معارضا ليس ببعيد عن أذرع أنظمة ترى أن لوي ذراع أنظمة أخرى والخلاص من معارضين لها على أرضها أمر منطقي بدهي، وليحصل بعده ما يحصل، طالما أن أمر الله سبق و"نفذ"!
وأما الرابط بين السؤالين فهو أننا في مقتل "خاشقجي،" كما في مأساة "رابعة العدوية"، كما عشرات الأحداث الفردية والجماعية.. كُتِبَ علينا في هذه الحقبة التاريخية البالغة المرارة أن نرى أحداثا بدايتها ذات دلالة على فداحتها، ونهاية غير هادئة لها.. فيما تأتي النهاية على مهل وتطبخ في دهاليز المطابخ السياسية وتقدم إلينا باردة لا أثر لاحترامنا فيها، ومع ذلك قد تذهب حياة أحدنا في موقف مشابه، وربما في ضجة أقل من البداية للنهاية!