لم يأخذ موضوع تحالفات الإسلاميين السياسية حظّه من البحث والدراسة، وذلك لأسباب عديدة منها طول أمد العزلة السياسية التي عاشها الإسلاميون بسبب تحالفات النظم الحاكمة مع بعض القوى السياسية، واستثناء الإسلاميين من هذه التحالفات، بناء على قواسم أيديولوجية مشتركة بين الأنظمة ونلك التيارات.
لكن، مع ربيع الشعوب العربية، ومع تصدر الحركات الإسلامية للعمليات الانتخابية في أكثر من قطر عربي، نسج الإسلاميون تحالفات مختلفة مع عدد من القوى السياسية داخل مربع الحكم، وترتب عن هذه التحالفات صياغة واقع سياسي موضوعي مختلف، ما جعل هذا الموضوع يستدعي تأطيرا نظريا على قاعدة رصد تحليلي لواقع هذه التحالفات: دواعيها وأسسها وصيغها وتوافقاتها وتوتراتها وصيغ تدبير الخلاف داخلها، وأدوارها ووظائفها، وتجاربها وحصيلتها بما في ذلك نجاحاتها وإخفاقاتها.
يشارك في هذا الملف الأول من نوعه في وسائل الإعلام العربية نخبة من السياسيين والمفكرين والإعلاميين العرب، بتقارير وآراء تقييمية لنهج الحركات الإسلامية على المستوى السياسي، ولأدائها في الحكم كما في المعارضة.
اليوم يقدّم الرئيس السابق لاتحاد الكتاب العرب، الكاتب السوري علي عقلة عرسان، قراءة في العلاقة بين الدين والدولة أولا، ثم يتبعه في حلقة ثانية بقراءة في تجارب الإسلاميين السياسية في العالم العربي.
في الإسلام السياسي.. نظرة إلى المبادئ والوقائع (2 من2)
بعد أن سلط الرئيس السابق لاتحاد الكتاب والأدباء العرب الدكتور علي عقلة عرسان، الضوء على العلاقة المتينة بين الدين والدولة، ينتقل اليوم وفي الجزء الثاني من قراءته لتجربة الإسلام السياسي في العالم العربي واقعيا.
يمكن التمييز في واقعنا السياسي العربي المعيش بين عدة أنواع ممن يحسبون أنفسهم على الإسلام السياسي.
1 ـ هناك مسلمون:" قوميون وليبراليون"، شاركهم ويشاركهم مسيحيون وحتى يهود، في عهود وبلدان.. حكموا ويحكمون ويتحكّمون بشعوب ودول، أكثرية سكانها من المسلمين، على تعدُّد مذاهبهم..
2 ـ وهناك "لا دينيون، وملحدون، وشيوعيون" حكموا في دول قليلة من تلك الدول مُدداً قصيرة نسبياً، أو شاركوا ويشاركون القوميين والليبراليين الحكم" في تلك المجتمعات والشعوب والدول، ذات الأكثرية الإسلامية..
في معظم البلدان العربية، ومنذ بداية الربع الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم، لم يحكم تنظيم باسم "الإسلام السياسي"، وفق المفاهيم والصيغ والتسميات المتعارف عليها
وهؤلاء وأولئك يعلنون أنهم في دول إسلامية، تنص دساتيرها على ذلك، ويعلنون أنهم يأخذون في الحكم بتطبيق علمانية.. بعضهم يفهمها على أصول من أصولها، تقول بفصل الدين عن الدولة، من دون اعتراض على التَّديُّن، ولا ملاحقة للمتديِّنين، كما جاء في اتفاق ويستفاليا، المعروف بـ " صلح وستفاليا Peace of Westphalia 1648" الذي أنهى حرب الثلاثين عاماً في أراضي الإمبراطورية المسيحية المقدسة، لا سيما في ألمانيا، وحربَ الثمانين عاماً بين إسبانيا وهولندا، ووقعته ممالك أوروبية..
وقد أضافت التطبيقات الفرنسية اللاحقة، إضافات مهمة إلى مفهوم العلمانية، وضحته وأغنته وقونَنَت ممارستها. وبعضهم يفهم العلمانية على غير ما كان لها من أصول، وما يتعارض مع ما فيها من قوانين وقواعد ونصوص وأحكام وتقاليد مرعية الاعتبار.. إذ يفهمونها ويمارسونها " إلحاداً، ونبذاً للدين واتهاماً له، وملاحقة للمتدينين.".
3 - وهناك مسلمون حكموا ويحكمون، وفق نظام لا يأخذ بالعلمانية، ويرفض الإلحاد.. يقولون إنهم يطبقون الشريعة وأحكام الإسلام.. بينما يأخذ عليهم ساسة مسلمون، ومسلمون غير ساسة، أنهم أبعد ما يكونون عن تطبيق الشريعة وإقامة عدل الإسلام، في سياساتهم وممارساتهم وسلوكهم.. الأمر الذي يجعل حكمهم، بنظر كثيرين: "ليس علمانياً ولا إسلامياً، بل نهجاً مُلتبساً، ظاهره يخفي باطنه، وبين ذينك "الظاهر والباطن"، شقاق وانعدام اتساق.."؟!.. وينقض المتَّهَمون على المُتَّهِمين بالأسوأ من الأحكام والصفات..
وكلٌّ من أولاء وهؤلاء وأولئك، المُشار إليهم في الفقرات الثلاث السابقة، أمسك بالحكم والسلطة في بلاد العرب والمسلمين لفترات أو سنوات أو عقود من الزمن.. كان فيها معارضات وتداول دول وسلطات.
4 - وهناك في المُقابل، مسلمون من المسلمين، في تلك البلدان العربية والإسلامية، معارضون مُزمِنون، إن صح التعبير، قليلاً أو نادراً ما تسلموا دفة الحكم في بلدان عربية وإسلامية، أو شاركوا فيه.. وهم جَذريون في نظرياتهم، يتطلعون إلى حكم مغاير للسائد، وإلى نهج مختلف عن ذلك الذي أخذ ويأخذ به القوميون والليبراليون واليساريون، من العلمانيين بأصنافهم وتمايزاتهم ومن غير العلمانيين، ومختلف أيضاً عن نهج كثير من الحكام الذين يقولون: "إنهم يحكمون وفق الشرع ومقتضى الدين/الإسلام"، لكن نهجهم ملتبس بنظر هذا الفريق الأخير، وله مآخذ على سياساتهم وممارساتهم وسلوكهم..
في معظم البلدان العربية، ومنذ بداية الربع الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم، لم يحكم تنظيم باسم "الإسلام السياسي"، وفق المفاهيم والصيغ والتسميات المتعارف عليها
وأطراف هذا الفريق، المشمولون بتسمية " الإسلام السياسي"، في البلدان العربية والعالم الإسلامي، يهدفون إلى تسلّم الحُكم، وإقامة دولة أو دول، وفق نظام حكم إسلامي شامل متكامل، يأخذ بتعاليم الإسلام ويطبقها، مع وجود الاجتهاد واستمراره، وتفعيل مبدأ القياس، والأخذ بالإجماع عند التعامل مع المتغيرات والمستجدات وحدوث ما لا سابق له يُقاس عليه.. نظام حكمٍ ليس علمانياً ولا إلحادياً ولا مُلتبساً.. حكمٍ يلبس لَبوس الدين ويحكم وفق أصوله وتعاليمه ومقاصده، كما يفهمونها هم ويحددونها وفق مرجعيات واجتهادات.. وهم يجهدون ويجتهدون ويجاهدون من أجل الوصول إلى الحكم، من أجل استلام الحكم والإمساك بعصا السلطة، والتفاعل مع الأحداث، والتواصل مع الناس، والتعامل مع السياسات، وتحقيق أهدافهم ومقاصدهم وتطلعاتهم التي يرون أنها متماهية مع العقيدة، وأن الإيمان يفرض عليهم أن يتابعوا جهادهم واجتهادهم حتى بلوغ الهدف وتحقيق العدل.. فينشئون تنظيمات وأحزاباً، ويدخولون معتَرَك المعارضة، ويواجهون
سياسة وساسة وسلطة، ويتصدون لها بأساليب ووسائل متعددة..
وفي واقع الحال، هناك مسلمون يحكمون، ومسلمون يعارضون في بلاد المسلمين.. وبينهم نزاعات واتهامات وصراعات مفتوحة الحدود والآفاق، لا تتوقف عند حدود الاتهام والتجريم والتكفير، بل تتعدى ذلك لتصل إلى المَنفى القسري أو الطوعي، وإلى السجن والتعذيب وحتى إلى القتل. ويستمر الصراع الدامي في أوقات وحالات وبلدان، ويتحول إلى حروب، يبحث كل طرف من أطرافها عن مناصرين وتحالفات ليحقق انتصارات.. وكل منهم يقول، بصيغة ما، إنه يحكم باسم الشعب والوطن وباسم الله، ويسعى لإقامة العدل والإنصاف، وإنه على حق، بل إنه هو الحق وغيره الباطل الذي يخالف تعاليم الإسلام، ويسيء إليه ويشوهه، ويمارس خيانة وعَمالَة وإرهاباً..؟! وليس هنا مجال الحكم على مصداقية تلك الأطراف، وربما يبقى الحكم مُرجأً إلى يوم يحكم الله بين الناس فيما هم مختلفون فيه.. إذ ما هو الحُكم الفيصل الذي يمكن أن يصدره فقهاء أتقياء أنقياء مؤهلون، يحكمون بعدل وحرية واستقلالية، بعيداً عن الخوف من الحكام والتبعية لهم، وبعيداً عن الانحياز للمصالح والمذاهب و.. و..؟! .. وقل ربي اغفر وارحم وأنت خير الراحمين.
لم يحكم
من شبه المؤكد، أنه في معظم البلدان العربية، ومنذ بداية الربع الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم، لم يحكم تنظيم باسم "الإسلام السياسي"، وفق المفاهيم والصيغ والتسميات المتعارف عليها، والمتداولة حول هذا المصطلَح ودِلالاته، والاستثناءات في هذا المجال محدودة جداً، مكانياً وزمانياً.. فالبلدان التي حكم فيها "إسلاميون" ـ حسب المصطلح السياسي المُتداول أيضاً ـ هي: "السودان" لسنوات قليلة، و"مصر - رئاسة محمد مرسي" لمدة قصيرة جداً، وتونس ضمن شراكة في الحكم مع أحزاب أخرى، والمغرب في إطار تكليف برئاسة حكومة نظراً لفوز في انتخابات.. وما عدا ذلك.. كانت التنظيمات الإسلامية، بتسمياتها وتفرعاتها، في المعارضة طوال الوقت، في صدامات دامية مع السلطات، وملاحقات مستمرة معظم الوقت.. وقد شهدت كل الأقطار العربية تقريباً شيئاً من ذلك، وأظهر تلك الصراعات والصدامات والمواجهات والملاحقات، وأشدها.. كانت في مصر على مراحل زمنية متجددة، وفي عهود مختلفة، وبقيت مستمرة في السر والعلن، منذ ما قبل ثورة تموز/يوليو 1952 إلى نهاية حكم الرئيس عبد الناصر، وحكم السادات، وحكم مبارك، وحكم السيسي.. وفي ليبيا إبان حكم القذافي، وفي الجزائر، وفي اليمن، وفي، وفي..
النموذج السوري
أما في سورية فقد كانت سلسلة الصراعات والصدامات شبه مستمرة، مع نتوءات أو ذُرى زمنية، إن صح التعبير.. وقد كانت جولات الصدام في خمسينات القرن العشرين بين القوميين من جهة والإسلاميين من جهة أخرى.. دامية، في المدارس والجامعات، وفي المدن مع الحكومات.. وتجددت تلك الصدامات والمواجهات العنيفة مع حكومات حزب البعث العربي الإشتراكي بعد وصوله إلى الحكم، وما أثارته من أحداث دامية، وسببته من توتر وأحقاد، وما أسفرت عنه من قتلى وجرحى ومعوقين، وما رافقها وتلاها من ملاحقات وتصفيات، ومنها على سبيل المثال: "أحداث دمشق مع جماعة " حَبَنَّكَة"، " موجة الاغتيالات في دمشق وغيرها من المدن السورية"، " مجزرة مدرسة المدفعية في حلب عام 1979"، "أحداث حماة الفاجعة عام 1982".. وما تبع كل ذلك من أحداث، ومضاعفات، وملاحقات، واعتقالات وتصفيات، وهجرة وتهجير.. واستمرت تلك الصدامات والمواجهات والملاحقات بأشكال ودرجات مختلفة.
وبتقديري أن ذلك الوضع سيستمر، على الرغم من الحرب/الكارثة التي طحنت الجميع في سورية منذ عام 2011، وتطورت إلى فتنة مذهبية، وراح ضحيتها ملايين السوريين، لا سيما المدنيين، بين قتيل وجريح ومعوَّق ونازح ومهجَّر.
يخمُد ولا يهمد
ومن الملاحظ، أن تيار "الإسلام السياسي" بتنظيماته المتعددة، تعرض في صراعاته وصداماته مع الأحزاب والقوى والتنظيمات الأخرى، وفي معارضته للحكومات، وسعيه للوصول إلى السلطة.. تعرَّض لضربات قاسية جداً، وخسارات فادحة، وملاحقات متعددة الوجوه والأشكال والصيغ، وحُظِرت تنظيماته وأحزابه ونشاطاته بموجب تشريعات وقوانين، وتعرَّض كثرة أو قلة من منتسبيه وأتباعه، للاعتقال والسجن والاغتيال.. وقد تعثّر وغرق في الأزمات والدم مراراً.. لكنه بقي موجوداً، يخمُد ولا يهمد، يختفي ثم يظهر، ويتابع معارضته، وسعيه للوصول إلى السلطة.
ومن خلال قراءة لهذا الواقع، واستقراء للماضي، والتوقف عند النهوض بعد كل كبوات، طوال عقود من الزمن.. يمكن القول بأنه غير مهدد بالانتهاء والانقراض، وأنه يمكن أن يتجدد، رغم ما تلقته تنظيماته وعناصره في السنوات الأخيرة، من خسائر فادحة، وضربات قاسية، وتشتت قوى.. بل إنه سيعود بصور أخرى، وربما بأسماء أخرى، بعد مراجعات، واستخلاص عبر، واكتساب خبرات من الدروس والمعاناة، ومن قراءة الواقع وتحديات المستقبل، والتبصر بمتطلبات السياسات والحكومات والمعارضات، ومتطلبات العصر..
من الملاحظ، أن تيار "الإسلام السياسي" بتنظيماته المتعددة، تعرض في صراعاته وصداماته مع الأحزاب والقوى والتنظيمات الأخرى، وفي معارضته للحكومات، وسعيه للوصول إلى السلطة.. تعرَّض لضربات قاسية جداً،
وفي ظني أن الدوافع وراء ذلك الممكن، هو استناد "الإسلام السياسي" في تنظيماته وأدائه العملي ونشاطاته الاجتماعية والسياسية، إلى فكر مستمدٍّ من الدين، وإلى إيمان بعدالة المطالب ومشروعية الأهداف، وإلى اعتقاد راسخ بأن ما يقوم به هو واجب ديني، وجهاد بالمعنى والمفهوم الإسلامي، بغية تحقيق أهداف مشروعة، ومتابعة رسالة سامية.. وهذا يشير بوضوح إلى أنه سوف يبقى ويتجدد، وإلى أن معارضته أو صراعاته ومواجهاته، أو جهاده، سوف يستمر، ويستمر بالمقابل ردُّ الآخرين عليه.
ونسأل الله تعالى، أن تتغير أحوال، وأوضاع، وأفكارٌ، وأنفس، وسياسات، وممارسات.. لدى كل الأطراف في الحكم والمعارضة، على اختلاف تنظيمات أولئك وأهدافهم وشعاراتهم ومشاربهم وانتماءاتهم ومصالحهم، نحو الأفضل والأنفع والأصلح، لتكون السلطات والمعارضات محكومة فعلاً، بمصلحة الأوطان وخدمة الإنسان، وبعقلانية ووجدان، ومراعاة لمتطلبات العدل والإنصاف، وفق تعاليم الدين، وحقوق الإنسان، ومقومات الإيمان.. وأن يتم تداول الحكم والسلطة، بحكمة وسلم وأمن وحرية ومساواة، في إطار التشريعات والقوانين، وفق إرادة الشعب واحترام رأيه ومصالحه.. وألَّا تحكم السلطاتِ والمعارضاتِ كافة، صراعاتٌ عنيفة دموية فتاكة قتالة مهلكة، وأساليب تعامل وتواصل وتفاعل خلوٌ من التضليل والخداع والمكر والخبث، وبعيداً عن كل ما يفسد الإنسان والبيئة والخلق، ويجعل البيئة السياسية مستنقعات آسنة، وينشر في المجتمع العداوات والكراهية وأنواعاً من المباءات.. وأن يكون رائد كلٍّ من هو في الحكم، ومَن يسعى للوصول إليه، سعي عقلاني - أخلاقي - إنساني - حكيم ومسؤول، أمام الله والشعب والقانون، من أجل خدمة الإنسان، بسلوك حسن، وأساليب سليمة نظيفة، ومقاصد سامية، لا تقضي على كل أمل وحلم للإنسان في أن يعيش كريماً، في وطن عزيز، يعز الجميع ويعتز به الجميع، وبأمنٍ من جوعٍ وخوف.
والله من وراء القصد.
*الرئيس السابق لاتحاد الكتاب العرب