جاهدت الانتفاضات الثورية التي اجتاحت
العالم العربي 2011 بشتى الطرق والوسائل السلمية المبتكرة؛ في سبيل إحياء معنى وجودي للعالم العربي الذي كان قد دخل روحيا وجسديا، عبر الأنظمة الدكتاتورية العربية المتحالفة مع الأنظمة الإمبريالية الغربية، في حالة من العطب والموت السريري، وفتكت به جملة من الأمراض المزمنة القاتلة؛ من
الاستبداد والفساد والقمع والبطش، إلى الحرمان والفقر والبطالة، وفقدان أي مقومات مناعية، كالحرية والعدالة والديمقراطية والكرامة. فالجماهير العربية العريضة التي انتفضت أصابها الفزع والهول مع اقتراب حلول موعد الإعلان عن موت العالم العربي، وهو العالم الذي شهد من قبل موت العالم الإسلامي "الرجل المريض"، وبهذا أصيب الإنسان العربي بصدمة مزدوجة، ترتكز الأولى على خسارة هويته التاريخية بقطع روابطه بماضيه الإسلامي، والثانية على فصم صلته بحاضره العربي، الأمر الذي يجهض حلمه بالوجود في المستقبل المنشود.
إذا كانت رواية العالم الإسلامي أصبحت من الماضي، رغم محاولة إحيائها، فإن قصة عالم عربي كانت على وشك الأفول والموت، ما دفع المتنفضين إلى محاولة إنعاشها، لكن سرعان ما أجهضت يقظة الثورات المضادة الحلم العربي، وبهذا بات الإعلان عن موت العالم العربي مسألة وقت. ففي ظل الأنظمة القمعية المحلية التي استباحت المنتفضين بالقتل تارة والزج بهم في السجون وتشريدهم في المنافي تارة أخرى، أصبح الحديث عن الإسلام والعروبة إرهابا، والاحتفاء بالشوفينيات الوطنية الفارغة سلما وحضارة.
شكل وأد مفهوم العالم العربي أحد أهم مهام الثورة المضادة كاستمرارية لمسار من الاندثار. ففي أسوأ لحظات العالم العربي، شكلت
العروبة حصنا لا يمكن المساومة عليه كمحدد أخير للهوية والكرامة. فحسب روبير مالي: تحت قيادة جمال عبد الناصر، عرفت مصر اقتصادا محطما، وفي سنة 1967 تلقت هزيمة مذلة من إسرائيل. لكن مع ذلك، ظلت القاهرة قلب الأمة العربية. كانت الجماهير العربية تنصت لجمال عبد الناصر وهو ينتقد الغرب، وهو يقرر تأميم قناة السويس ويشاكس ضد إسرائيل. في نفس الفترة، استعادت الجزائر استقلالها، وأصبحت ملجأ الثوار من العالم أجمع. وفرضت العربية السعودية حظرا بتروليا هز الاقتصاد العالمي، وأعطى ياسر عرفات للفلسطينيين صوتا، وفرض قضيتهم على الساحة الدولية. تعرض العالم العربي لخيبات وانكسارات سياسية وعسكرية، لكنه كان يقاوم. لم يكن الغرب يطيق الأصوات الصادرة من القاهرة أو الجزائر او بغداد أو طرابلس، ولكنه كان يصغي ويهتم.
تقوم استراتيجية قتل العالم العربي على دينامية "
الإرهاب"، حيث تختفي المعارك من أجل التحرر والاستقلال والحرية والكرامة والعدالة، وتحضر حصرا "حروب الإرهاب"، وهي حجر الأساس في ركن الاستراتيجية الأمريكية الإمبريالية في ديمومة الهيمنة عبر الدكتاتوريات المحلية؛ التي اختزلت مشاكل المنطقة بعدو مخاتل فضفاض غير محدد، اسمه "إرهاب". فعقب الثورة المضادة على ثورات الربيع العربي، بلغنا أقصى حدود التفاهة. ففي ظل غياب "عدو" بعد أن تحولت المستعمرة الاستيطانية المسماة "إسرائيل" إلى صديق، تنامت ديناميات اختراع "عدو" داخلي تمثل بـ"الإرهاب". وإذا تتبعنا مسألة العنف السياسي في العالم العربي، فقد تكاثرت منذ الانخراط في ما يسمى "عملية سلام". وبهذا تحولت الجيوش العربية إلى قوة بوليس، وتبدلت عقيدتها القتالية إلى قوات مكافحة إرهاب داخلي.
لم يقتصر موت العالم العربي عبر مدخل "الإرهاب" على قتل المقاومة الداخلية، بل تعداه إلى قتل المقاومة الخارجية؛ باختراع عدو "إرهابوي" متخيل عبر تطبيقات "صفقة القرن"الأمريكية الإسرائيلية العربية، وهي تطبيقات بدت واضحة عقب إعلان الاعتراف الأمريكي بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس في كانون الأول/ ديسمبر 2017، وذلك تحقيقا لمبادئ وثيقة الأمن القومي التي نصت على جوهر الصفقة وذرائعها. فبحسب الوثيقة، "على مدار عقود كان الحديث عن أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو المحور الأساسي الذي منع تحقيق السلام في المنطقة، إلا أن اليوم يتضح أن التطرف الإرهابي الإسلامي الآتي من إيران قادنا لندرك أن إسرائيل ليست مصدرا للنزاع في الشرق الأوسط، وأن دولا أظهرت إمكانيات التعاون المشترك مع إسرائيل لمواجهة التهديدات الإيرانية". فالاستراتيجية الأمريكية لفهم طبيعة المخاطر في الشرق الأوسط تشير إلى أن واشنطن ترى أن ثمة خطرين في المنطقة: الأول هو التنظيمات الإرهابية، والثاني هو الجمهورية الإيرانية.
تكتمل مسارات موت العالم العربي من خلال التماهي مع التصنيفات الإرهابوية الأمريكية والإسرائيلية في إطار ترتيبات "صفقة القرن"؛ التي تقوم على تصفية القضية الفلسطنية وإدماج المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية في نسيج المنطقة العربية الإسلامية، من خلال تأسيس تحالف بين الإمبريالية الأمريكية والدكتاتوريات العريية والاحتلال الإسرائيلي تحت ذريعة مواجهة الخطر المشترك المتمثل بالمنظمات "الإرهابية" و"إيران، فأولويات في المنطقة باتت تقتصرعلى الحد من نفوذ إيران باعتبارها راعية للإرهاب، ومواجهة المنظمات العنفية المنبثقة عن إيديولوجية جماعة "الإخوان المسلمين".
إن المدخل الرئيس للإعلان عن موت العالم العربي يقع على طريق "الإرهاب"، عبر تحويل العربي إلى إرهابي، وهي مهمة غاية في السهولة والبساطة؛ تسير على قدم وساق، تبدأ بهدر كرامة الإنسان وتحويل حياته المعاشة ومستقبله المنتظر إلىجحيم، وتعمل على غلق منافذ التغيير السلمي، وبالتشجع على حرب الهويات وبعث الطائفيات ونشر الفساد وتعمم الاستبداد، ومن خلال تحويل قيم الديمقراطية والمواطنة والمساواة إلى مجرد فتنة ومؤامرة عمياء. وإذا فشلت الدكتاتورية المحلية في قمع المعارضة وكبح أي تمرد أو حركة اجتجاج تحت ذريعة الإرهاب، تتدخل الإمبريالية الخارجية بذريعة فرض الاستقرار.
خلاصة القول، أن العالم العربي يشهد حالة موت غير معلن، إذ تعمل الأنظمة الدكتاتورية المحلية، بالتحالف مع الأنظمة الإمبريالية العالمية وبالتعاون مع المستعمرة الإقليمية الإستيطانية الإسرائيلية، على قتل مفهوم العالم العربي من خلال مدخل "الإرهاب". ذلك أن كل من يعرف ذاته خارج حدود وطنيته القُطرية وتفصيلات الأنظمة وتعريفاتها للهوية، وصلاتها بالإسلام والعروبة ككينونة مقاومة، سيحمل هوية مفروضة عليه هي هوية "الإرهابي"، وأي فعل مقاوم للسلطة والاحتلال والهيمنة هو ذات "الإرهاب". ولكن ما لا تدركه الطغمة أن فرض هوية خانعة ذليلة على المنطقة لا يقع في مجال العبث والتسلية، فتلك مهمة عجز عنها أعتى الطغاة وأقسى الغزاة، فهوية العالم العربي تقف على ثغور المرابطة.