حالة من القمع والبطش غير مسبوقة تجتاح
مصر منذ انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013، وتتسع يوما بعد يوم تحت فزاعة ما يسمى بمحاربة الإرهاب؛ بدأت على عدة مستويات، كان أبرزها تلك الإجراءات الأمنية والقمعية التي قام بها نظام الانقلاب يوم 22 تموز/ يوليو 2013، عندما طالب
السيسي الجماهير المصرية بالخروج للشوارع والميادين لتفويضه لمكافحة خطر الإرهاب المحتمل، وقد خرج بالفعل عدد من الجماهير يوم 26 تموز/ يوليو 2013.
وأصبح هذا التفويض بمثابة المحلل والمبرر لكل المجازر والمذابح الانتهاكات البشعة التي يقوم بها النظام، بداية من مذبحة الحرس الجمهوري ورابعة والنهضة وما تلاها من دماء تدفقت كالأنهار في ربوع مصر، وأقل ما يقال عنها أنها جرائم إبادة ضد الإنسانية لن تسقط بالتقادم؛ مهما حاول مرتكبوها طمس الأدلة ومحو معالم الجريمة، كما قال تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش في الذكرى السنوية الأولى لمذبحة رابعة.. هذا فضلا عن حملات الاعتقالات الدامية التي طالت النساء والرجال والأطفال وامتلأت بهم السجون والمعتقلات، ومنظومة العدالة التي انهارت خلال محاكمات جائرة تفتقد لأدني درجات العدالة والقانون؛ فرأينا أحكام إعدام بالجملة، وتحولت مصر إلى سجن كبير تصاعدت فيها وتيرة انتهاكات حقوق الانسان.
وقد صاحب هذا القمع مجموعة من التشريعات والقرارات التي صدرت لهذا الغرض، لعل أخطرها قانون الكيانات الإرهابية الذي تم التصديق عليه ونشره في الجريدة الرسمية في شباط/ فبراير 2015، وبدأ العمل به رسمياً في اليوم التالي لنشره.
وتوالت بعدها قرارات وأحكام
القوائم الإرهابية سادت فيها الفاشية السياسية للانتقام من المعارضين والمناهضين للانقلاب العسكري، حيث شملت هذه القوائم مشاهير وسياسيين وأحزابا، تحت شماعة محاربة الإرهاب، ثم تم تعديل القانون في 2017 ليكون أشد تعسفا وقمعا وأطول مدة للانتقام من المعارضين، وتشويه صورتهم وسمعتهم أمام الرأي العام، ونهب ممتلكات وأموالهم.
والأغرب، أنه طوال تلك السنوات التي حشدت فيها السلطة كل أدوات القمع والاستبداد ضد المواطنين، تفاقم فيها الإرهاب، خاصة في سيناء الذي أصبح شبحا تطارده السلطات دون فعالية، بما في ذلك "العملية الشاملة" التي قامت بها في سيناء وكافة ربوع الدولة، وتوالت بياناتها تتحدث عن قتل إرهابيين والقبض على آخرين وتدمير أوكار وضبط مخازن أسلحة، فلا يمر يوم حتى نسمع عن عملية إرهابية يروح ضحاياها جنودنا وضباطنا، مما يثير تساؤلا في أذهان كثير من المصريين: لماذا لا ينتهى الإرهاب؟ لسبب بسيط، أن الذي يولّد الإرهاب ويصنع الإرهاب هو الاستبداد، فضلا عن أنه إذا أردت أن تحل مشكلة فتوجه لأسبابها قبل أن تصدر قوانين. ونحن في مصر أضحت عادة لدينا أننا نترك أصل المشكلة ومسبباتها، ونهتم بإصدار قانون، زاعمين أننا سنسيطر به على تداعياتها.
المشكلة في مصر تتلخص في عملية سياسية محتقنة، والتوصل لعلاج هذا الاحتقان سيعالج مشكلة الإرهاب بنسبة 99 في المئة، ويسهل بالتالي التعامل مع النسبة المتبقية.
فاختيار القمع طريقا لحل مشكلة الاحتقان السياسي اختيار جنوني يزيد من الأزمة ويعقدها، ويخلط الاوراق. فقانون الكيانات الإرهابية يعطى صلاحيات واسعة للمحكمة؛ يمكن بمقتضاها إدخال ممارسات سياسية، مثل التظاهر، ضمن الممارسات الإرهابية، بما يزيد من حالة الاحتقان السياسي.
فالتظاهر يكون إرهابا، والبيانات والتقارير التي تدعو لإلغاء القانون وممارسات المعادية للحريات تصبح إرهابا أيضا، بل السياسة في مجملها تصبح إرهابا، والصحافة والتعبير عن الرأي تصبح جريمة! خاصة وأن هناك عبارات فضفاضة يتضمنها القانون، كتهم معلبة، منها: "الإخلال بالنظام العام"، "الإضرار بالوحدة الوطنية"، "سلامة المجتمع وأمنه"، "إيذاء الأفراد"، "إلحاق الضرر بالبيئة". ومع انعدام الأدلة على تلك التهم، تدخل الأحزاب السياسية ومنظمات حقوق الإنسان في نطاق الكيانات الإرهابية.. وهي جريمة كبرى ترتكب في ظل تأميم العمل السياسي في مصر وانسداد الأفق العام، مما يزيد من المظالم، وما يتبعها من غضب يؤدي إلى فوضى، وهي أخطر أنواع الإرهاب المصنوعة بيد السلطة.
ولعل من الخطورة بمكان ما أقدمت عليه السلطات المصرية
بإدراج الجماعة الإسلامية، وعدد من قادتها الذين يمثلون قادة للحزب البناء والتنمية في ذات الوقت، على قائمة الكيانات الإرهابية لمدة خمس سنوات، حسب ما نشرت الجريدة الرسمية.
الحقيقة أن اعتبار الجماعة الإسلامية اليوم جماعة إرهابية يجافي تماما كل قواعد العقل والمنطق والحكمة، بل والسياسة؛ فالجماعة أطلقت منذ أكثر من عشرين سنة مراجعات لنبذ العنف، هي الأولى في تاريخ العالم العربي والتزمت بها بشكل صارم طوال الوقت... بل اعتبرت السلمية استراتيجية راسخة في سياستها.
ولعل
الممارسة السياسية لحزب البناء والتنمية كانت ناضجة في إيجاد الحلول السياسية وطرح المبادرات لحل الأزمات في مصر، حتى بلغت تلك المبادرات أكثر من 15 مبادرة، فضلا عن أن الجماعة الإسلامية خاضت تجربة شجاعة ورائدة في ما يسمى بمبادرة وقف العنف التي كسبت مصداقية كبيرة على أرض الواقع، وتحولت فيها الجماعة من العنف والمواجهة المسلحة إلى مربع النضال السلمي كخيار للتغيير. وكانت تلك التجربة محل فخر للسلطة لنجاحها على أرض الواقع، بل إن العديد من الأنظمة العربية أخذت بها، سواء في ليبيا أو السعودية، في معالجة ظاهرة العنف ومحاولة إدماج معتنقيه في المجتمع.
لكن فجأة، السلطة في مصر تقرر التخلص من تلك التجربة، بل تجرّم هذا الكيان، رغم أن الجماعة الإسلامية وحزبها (البناء والتنمية)
لم يكونا جزءا من السلطة في زمن حكم الدكتور محمد مرسي، ولم يكونا سببا في الأزمة، بل كانا ولا يزالا داعيين للحل السياسي للأزمة.
لكن من المهم أن نعرف أن وصم الجماعة الإسلامية بالإرهاب لا يخرج عن سياق شيطنة كل الرموز والكيانات المعارضة واعتبارها تنظيمات إرهابية، ابتداءً من الإسلاميين ومرورا ببعض القوى اليسارية والليبرالية، بل والتجمعات الرياضية.. الكل في مصر إرهابي في ظل حكومة غاشمة تمارس القمع والإرهاب ضد كل طوائف الشعب.
لكنني أعتقد أن أخطر ما في تلك الاتهامات بالإرهاب للجماعة الإسلامية وغيرها من الكيانات الوطنية؛ هو الإضرار بالدولة المصرية من خلال إفساد نموذج صحيح لتحويل الجماعات المسلحة إلى العمل السلمي، من خلال آلية الحوار والمناقشة، بدلا من آلية القمع والبطش، فضلا عن إفشال نموذج يمكن الاقتداء به في تفكيك الأجنحة المسلحة ودمجها في مجتمعاتها دمجا إيجابيا. وهي محاولة خبيثة لشيطنة الجماعة الإسلامية في نظر المجتمع، ومن ثم فصلها عن رصيدها الاستراتيجي.
ورغم تلك الإجراءات القمعية والاتهامات الطائشة، أعتقد أن قيادات الجماعة الإسلامية وأبناءها يصرون على الوقوف في المربع الصحيح الذي خطته الجماعة لنفسها في نهايات القرن الماضي، من خلال منظومة المراجعات الفقهية، وسقوط خيار العنف كوسيلة للتغيير، وإعلاء النضال السلمي كوسيلة للتغيير القائم على التعايش والتواصل مع أبناء المجتمع المصري، على اختلاف توجهاتهم وتنوع مشاربهم ومعتقداتهم.