في واحدة من قفزاته المبهجة، تحول المشير الركن عبد الفتاح
السيسي إلى طبيب تغذية ومدير مركز للنحافة والتخسيس، فطالب المصرييين بأن يتابعوا أوزانهم والنظر إلى بطونهم!
ولأن الأدوار عنده تتكامل، من كونه طبيباً إلى مفكر، فقد يدرج ضمن تجديد الخطاب الديني، الطلب من أئمة المساجد تجديد خطابهم، وبدلاً من حث المصلين بالنظر في موضع السجود، فسيكون الطلب هو أن يصلوا صلاة مودع و النظر "موضع الكرش"، ليرد في الخطاب الديني بعد التجديد أن الله يبغض المسلم السمين!
عودك مرسوم على السنجة
لم تكن هذه المرة الأولى التي يتحدث فيها عبد الفتاح السيسي عن أحجام
المصريين، فقد سبق له أن أعلن في محفل له أنه يريد للشباب عوداً مرسوما، ليذكرنا بالأغنية الشعبية في وصف المحبوبة: "وسطك ولا وسط كمنجة.. عودك مرسوم على السنجة"!
وقد اعتقدنا أنها مرة وذهبت لحالها، ولم نكن ندرك أنها واحدة من مهام السيسي الوظيفية. ففي اللقاء الأخير، عاد وزاد، ولت وفت حول هذا الموضوع، ولم تكن دعوته قاصرة على الشباب، ولكنها امتدت إلى عموم المصريين. ونشرت صحف الموالاة أن السيسي يضع روشتة للتخسيس، ومن بين ما جاء في هذه التذكرة الطبية للطبيب الفليسوف؛ هو أنه لا داعي لركوب "التوك توك" لمسافات قصيرة. وقد تحدث باستنكار عن حرص الطلاب على أن يستقلوا الحافلات إلى داخل الجامعات!
لم نسمع أن حاكماً انشغل بحجم بطون الناس، وعندما كان يفعلها مبارك، كان من باب إظهار التبسط، من رجل لا يجيده، وهو كان مشغولاً بأن يظهر نفسه باعتباره "ابن بلد"، مع ما يتمتع به أولاد البلد من بساطة وقبول، لكنه لم ينجح أبداً، فقد صاحبته الانعزالية على مدى حياته. يقول الذين عاصروه في شبابه بقريته، أنه وفي سن الشباب كان يجلس وحيداً، على البئر الخاص باستقبال مياه الصرف الصحي الخاص بمسجد البلدة، فلا يحتك بالناس ولا يحتكون به، وكان يحرص في خطبه وتعامله مع من حوله، على استدعاء بعض المفردات ليتجاوز "عقدة الانعزال" هذه، ويؤكد أنه واحد من الشعب!
لقد ارتبط "الكرش" في الثقافة الشعبية القديمة، بأنه دليل على أثر "العز" وعلامة على الرفاهية، ولهذا كان أحدهم يضع يده عليه فخوراً، فهذا الذي تربى على "الغالي"، ومع تطور هذه الثقافة فإنه صار يعني الراحة، وفي حالة الموظف الحكومي فإنه أحيانا يُنظر له على أنه إشارة واضحة على فساده، وربما هذا تصور لما ورد في التوارة "إن الله يبغض الحبر السمين"!
مبارك والكرش
قال مبارك لأحد أركان حكمه في حفل عام، وهو "كمال الشاذلي"، البرلماني والقيادي في الحزب الحاكم رحمه الله: "كرشك كبر يا كمال"! وهي إشارة قد تعني أنه مطلع على فساده، ومبارك كان دائماً يقول كلاماً حمال أوجه، أو هكذا كان يظنه الناس في البداية، لكن بعد سنوات من حكمه، فقد وقف الناس على أنه يلقي بالكلام على عواهنه دفعاً، بدون أي هدف، إلا أن يبدو بسيطاً، وربما في بعض الحالات يبدو واعياً بما يدور!
عندما حدثت أزمة الفنانين، ضد ما عُرف بالقانون 103 في نهاية الثمانينات، ودعا مبارك الفنانين إلى لقاء معه لمناقشة سبب الأزمة، فكروا فيمن يتحدث باسمهم، وإذ كان من يتزعم المعارضة، الفنانة تحية كاريوكا، وأستاذ بأكاديمية الفنون نسيت اسمه الآن، والأولى راقصة معتزلة تتحدث بعفوية بما لا يليق بمقام الرئاسة، وكانت تقود الاعتصام في نقابة المحامين وقد أضربت عن الطعام، والثاني ليس من نجوم الفن، فضلاً عن أن كلامه مسكون بالحدة التي لا تليق بوجود رئيس الدولة، فقد وقع الاختيار على واحد من نجوم الفن الذين عرف عنهم القدرة على الحديث والتعبير!
وكان مبارك حريصاً على أن يبدو ملماً بالنقاش الذي دار لاختيار من يتحدث، فألمح إلى ذلك في البداية (لا بد للحاكم أن يعرف دبة النملة في العالم الثالث) وهو يقول من سيتحدث باسمكم؟ وفي الأحوال العادية، فانه يعطي الكلمة لمن يطلبها!
عندما وقف الفنان النجم، انسحب مبارك من لسانه، ليقول له بجلافة، مع أنه كان يتبسط: "مش لما تحكم فلانة الأول تأتي لتحكم الفنانين"!
وهناك من ذهب بعيداً وهم يفسرون هذه الرسالة، فمن المؤكد أن مبارك يعلم ما لا نعلم، وأن الأجهزة الأمنية نقلت له ربما علاقات لفلانة، التي ذكر مبارك اسمها، لنكتشف بعد ذلك أن الامر ليس كما ذهب إليه القوم، فقد كان مبارك يريد أن يقول للفنان أنه يعرفه. وليس هذا فحسب، فهو يعرف أن زوجته هى الفنانة فلانة.. إنه يا إلهي يعرفها هي نفسها، مع أنها كانت "مقلة" في أدوارها الفنية. والأمر ليس أمر حكم للفنانين، ليستدعي عملية "حكم الجماعة في البيت"!
فقد كان مبارك عنده عقدة السادات، من حيث كونه "ابن بلد" و"فلاح" فيه الكثير من سمات الفلاح المصري ومن بينها "النباهة"، لكن السادات في بساطته لم يكن مفتعلاً، فقد عاش البساطة وتعايش معها، واندمجت به واندمج بها، وهو عقدة السيسي أيضاً، لكن في اتجاه آخر، وهو الذي أورد حديث النظر إلى البطن، وزيادة الشحم، والعود، وما إلى ذلك!
ارتبك الفنان لبرهة، لكن تصفيق الحضور ومجاملتهم مبارك بالضحك؛ ألقى على الموقف روح البساطة، لكن كمال الشاذلي لم يرتبك، وعامل مبارك كما يريد، فقد وضع يده على كرشه وهو يقول في فخر: "من فضلة خيرك يا ريس". وبطبيعة الحال لم يكن يقصد أنه إن كان قد نبت من الحرام، فهو بما جاد به عليه الرئيس!
فعلها مبارك مرة ثانية، مع برلماني من عائلة الزمر، وهى واحدة من العائلات التاريخية في مصر، قال له: "كرشك كبر"، فرد عليه: "من بيت أبويا ياريس".
مفتون بالسادات
في المرة الثانية التي تحدث فيها السيسي عن "سمنة المصريين"، لم يكن حديثا عفوياً كما كان في المرة الأولى، ولكنه موضوع من الموضوعات التي اختارها، ويبدو أننا سنعيش فيها لفترة، قبل أن يعثر على قفزة جديدة، وقد يتحول إلى طبيب أنف وأذن حنجرة في القفزة القادمة، فالمهم أن يكون ولي أمر المصريين في كل تفاصيل الحياة، وهذا هو بيت القصيد!
فالسيسي مفتنون بالسادات، ويريد تقليده، والسادات لم يقدم نفسه على أنه حاكم وفق قواعد الدولة الحديثة، فهو "كبير العائلة المصرية"، ومصر ليست أكثر من أسرة هو ربها وعائلها. وقد بدا هذا من خطابه وهو يتعامل مع الجماعات الاسلامية، فهو يهاجمهم ومع هذا هم أولاده، فيقول: "أولادي المغرر بيهم"، وفي مقام آخر يقول: "كلكم أولادي". ولا مانع بطبيعة الحال أن يقسو الأب على أبنائه؛ لأنه أدرى منهم بشؤونهم، وبما يحييهم. وعندما غضب على الطالب عبد المنعم أبو الفتوح وهو يخاطبه عن فساد حكمه، كانت غضبة الأب لا الحاكم على ابنه الذي يخالف الأصول ويرفع صوته على أبيه، فكرر أكثر من مرة "عيب"، ثم أصدر قانون حماية الجبهة الداخلية من العيب، وعندما وقف في وجهه الشباب الذين يطلقون عليه النار، كانت وقفة من يتمثل دور الأب وهو يقول: "يا ولد"!
قل في السادات ما تريد، لكنه في البدء والانتهاء هو مخلوق من طين مصر؛ لبس الجلباب الريفي، وصعد المنبر وخطب الجمعة، ومارس السياسة، وفُصل من الجيش، وتشرد، وارتفع وانخفض، واقترح على بليغ حمدي أن يلحن للنقشبندي، وخطط لإعادة تقديم الشعراوي تلفزيونيا، ثم يمنعه، ثم يقترح نفس التجربة مع الشيخ كشك قبل أن يعتقله. وتشده الحياة الغربية إليها، فيذهب إليها.. تطربه دعاية أنه أشيك رجل في العالم، ثم يعود إلى قريته بجلبابه الريفي مصليا في مسجد ميت أبو الكوم!
السيسي وهو مفتون بالسادات، في فكرة أن ولي الأمر الأب، وبالطريقة التقليدية لمعنى الأبوة، يريد أن يتحكم في أولاده، ويقرر لهم، لكنه يفتقد لكل مواهب السادات جملة وتفصيلا، ويفتقد لمهارات الأب الواعي، فينشغل بما لا يتجاوز حدود الأبوة الخشنة، فيبدو كزوج الأم المتسلط. وباختلاف السمات الشخصية، تكون كارثة التقليد، فالسادات بكل عيوبه واحد من مصر، والسيسي مستشرق، لم يتربَ كما تربى السادات، ولم يعش الحياة في مصر بكل تفاصيلها، وكفلاح يدرك ما حوله، فالسيسي تربى في أنبوب، فكان المنتج كارثة!
والسيسي عندما يتحدث عن البدانة، فإنه حديث زوج الأم البخيل الذي يعتقد أنها نتاج "الأكل بنهم" بما يؤثر على الموازنة العامة للدولة، أو "مصروف البيت"، ولا يدرك أنها في جانب منها هي بسبب سوء التغذية، عندما يكون الهدف أن تملأ البطون بالخبز، فلا فاكهة ولا بروتين.
متى يقع الطلاق ليتحرر المصريون من تسلط زوج الأم؟!