مقالات مختارة

حديث الصفقة مجدداً

1300x600

يحدث في الدراما الكلاسيكية كما في الواقع، أن الأبطال والشخصيات الرئيسية المشاركة في الأحداث يبدون كمن يحثون الخطى بالسير نحو مصائرهم أو الذرى المأساوية، كما لو أنهم مدفوعون بقوى خفية وغامضة ولكن لا يمكن مقاومتها، كما لو أنها من أفعال القدر. ومن المفارقة أن ما يبدو التسلسل المنطقي للمواقف والأحداث هو الذي يفضي بالضرورة إلى هذه الحتمية، فان هذا التطور يترافق مع ما تظهره هذه الشخصيات المأساوية غالباً من انعدام التردد أو حتى مجرد الشك في صحة وسلامة أو صواب خياراتهم التي اتخذوها، واظهروا مثل هذه الإرادة أو الثقة في المضي بكل العزم على تحقيقها.

هل نشهد مثل هذا الإسقاط التراجيدي على واقع الأحداث الآخذة نحو هذا التطور في حالنا؟ أو بعبارة قد تكون صريحة وصادمة اليوم، هل أصبحنا نسير بهذه القوة الغامضة كما لو أننا ندفع من وراء ظهورنا، ولكن دون تردد نحو القبول أو التسليم بتحقيق ما يسمى صفقة القرن؟ كما لو أن هذه الحقيقة هي النتيجة الحتمية لتسلسل منطق الدراما التمثيلية التي تجرى أمامنا. 

ولا يغير من هذا الواقع أن كلا الممثلين الرئيسيين في هذه الدراما كلاهما معاً لا يشكان ولو للحظة واحدة بأنهما يحاربان هذه الصفقة، ولا احد من الجمهور يشك بأن الرئيس أبو مازن هو أول واكبر من قال لا لهذه الصفقة، ولم يكتف بذلك بل قطع أي علاقات بالإدارة الأميركية وكاد يفعل ما كان يفعله باباوات روما في القرون الوسطى، بفرض «الحرم الكنسي» على أي وساطة يقوم بها الرئيس الأميركي. فكيف يشك احد في أن الرجل يسعى بعد كل ذلك إلى إنجاح أو تسهيل فرص هذه الصفقة المأساة على الأرض؟

بالمقابل فإنهم في أوساط «حماس» يكادون يسخرون من اتهامهم بالعمل على التواطؤ الضمني مع تنفيذ صفقة القرن، إذا كان محور هذه الصفقة هي الفصل بين غزة والضفة واعتبار غزة هي الدولة، بينما يعتبرون أنفسهم والفصائل في غزة أنهم الممثلون الفعليون للمقاومة الفلسطينية. وهم يسألون كيف أنهم المقاومة وينظمون كل يوم جمعة هذه المسيرات الشعبية الحاشدة على الحدود الغزية تحت شعار حق العودة وكسر الحصار، أن يكونوا طرفاً شريكاً في هذه الشبهة الوطنية؟

والواقع انه يمكن تصديقهم، سواء ممثلو السلطة و»حماس» فكلا الطرفين صادقان في إعلان رفضهما لهذه الصفقة. ولكن السؤال أيضا هو عن مغزى هذه التسريبات الإعلامية الأخيرة عما لا يفاجئنا في الواقع من ملامح أو مضمون هذه الصفقة أو الحل النهائي للقضية الفلسطينية؟ بعد أن قرر ترامب ومساعدوه تأجيل الإعلان الرسمي للخطة بانتظار نهاية الانتخابات الإسرائيلية كما طلب نتنياهو؟

والجواب واضح أن انسداد أفق المصالحة وإنهاء الانقسام سوف لن يفضي إلى أي نتيجة سوى الإقرار بهذا الحل أي إقامة الدولة في غزة، وذلك بغض النظر عن المواقف الفلسطينية العلنية من هذا التحول. إذا كان السؤال المنطقي الثاني الذي يدفع إليه تطور الأحداث، ما هو البديل الواقعي عن الفشل في إعادة تركيب أو توحيد النظام الفلسطيني الواحدي أو المشترك بين رام الله وغزة ؟
والجواب نظامان برأسين بما في ذلك نظام سياسي شبه مستقل على أرض جغرافية في غزة بمطار وميناء، أي بكل مقومات الدولة. ونظام آخر هو عبارة عن سيادة على أجزاء من الضفة والسكان أي كحكم ذاتي غير مستقل.

لكن جزءاً أو جانباً من الإشكالية التي يطرحها هذا التصور والتي لا حل لها أو جواب عليها، أنه بينما هذا الاحتمال القاتم أو المخطط يبدو على قدر واضح من رفض اللاعبين الرئيسيين له، إلا أن الوجه الآخر من المسألة هو تلك المقولة التي تقول إن الطريق إلى جهنم كانت دوماً أيضا معبدة بالنوايا الطيبة أو الحسنة، أي أن الأعمال أو الأفعال هي ما يهم.

أما الجانب الآخر من هذه المعضلة، فهو هذا التناقض المحير والذي لا حل له إلا تدخل القائد أو إنهاء الانقسام، وهذا التعارض مفاده التالي: إذ بينما يعتبر مطلب كسر الحصار عن غزة وتحسين الظروف الإنسانية للناس هناك، وعلى رأس تغيير هذه الظروف في غزة جذرياً إنشاء المطار والميناء، فإن تحقيق ذلك من شأنه اكتمال توفر عناصر الدولة المستقلة في غزة مادياً عبر حرية التجارة والتنقل والحركة والموارد الاقتصادية. فكيف يمكن الموافقة على ذلك ورفض هذه المطالب مع ذلك؟

وإني لأذكر هنا أن الدكتور نبيل شعت أمد الله في عمره الذي عمل منذ إنشاء السلطة وزيراً للتخطيط والتعاون الدولي، كان قد قال لي في العام الأول من إنشاء السلطة ما يمكن اعتبارُه الرؤية الاستراتيجية لتبادل الأدوار بين غزة والضفة الغربية، أن غزة هي التي تشكل في هذا التصور أو المخطط الاستراتيجي الثقل الاقتصادي للدولة الفلسطينية العتيدة. فيما الضفة تلعب دور ووزن الثقل الثقافي والسياسي التي تضم الديني المقدس، أي ما يمكن اعتباره «مكة والفاتيكان» معاً، أي المسجد الأقصى وكنيسة القيامة.

فهل يمكن القول الآن إن الانقسام الراهن يفصم عرى هذه التكاملية أو التبادلية بين شطري الوطن؟ أو كأننا انتظرنا العدو، فإذا نحن نكتشف أن العدو هو نحن أنفسنا. ولكن أيضاً هل كل ما يقال وآخر ذلك التسريبات الصحافية حول خطة الرئيس ترامب هو أمر اليوم الذي سوف يتحقق؟

والجواب قد لا يكون في أمر اليوم أو غداً. لكنه إذا لم يتم إنهاء هذا الانقسام بمعجزة فإنه للأسف سوف يكون هذا هو الاتجاه، وهذه المعجزة قد لا ينتظر أو يتوقع حدوثها فلسطينياً وإنما في المحيط الخارجي. ونقصد هنا في غضون الأشهر الثلاثة القادمة على صعيد الانتخابات الإسرائيلية وتحديداً معرفة مصير نتنياهو، والتغيرات المحتملة في الخريطة السياسية الإسرائيلية. علماً أن التطبيع العربي وصفقة القرن كلاهما ورقتا بنيامين نتنياهو ورهانه لحل الصراع مع الفلسطينيين.

أما المتغير الثاني الذي يجب انتظار التحقق منه فهو مصير دونالد ترامب نفسه وقدرته على حرية اتخاذ قراراته في إدارة السياسة الخارجية، مع تسلم النواب الديمقراطيين ممارسة دورهم كأغلبية في مجلس النواب؟ وهم يمثلون السلطة الثالثة في الولايات المتحدة بعد الرئيس ونائبه. وهو ما يطرح أسئلة حول مصير خطة ترامب لحل القضية الفلسطينية على أساس الملامح التي جرى الحديث عنها إعلامياً، إذا كانت ملامح وقواعد اللعبة الأميركية داخلياً سوف تتغير. 

وإذا كانوا في الإقليم بدؤوا مبكراً الاستعداد للتكيف مع هذا الخلط الجديد للأوراق في دولة المركز أي الولايات المتحدة. وبهذا المعنى فإننا قد نسير نحو هذه العقدة التراجيدية، ولكن الأزمة ما زالت مفتوحة ولم تغلق حلقتها بعد، طالما أن المسألة الفلسطينية نفسها هي اكبر من ممثليها. وهذا كان في الأزمان الماضية ومازال واقعاً اليوم.

عن صحيفة الأيام الفلسطينية