ونحن في مطلع العام 2019، نستشرف مستقبل هوية المنطقة العربية، وما يمكن أن يجرى فيها من تغيرات. ونقصد بهوية المنطقة، نظام الأفكار الحاكم لتفكيرها واهتمامها، والموجه لقراراتها والمنظم لفعلها.
ولبيان أهمية الهوية في تحديد مستقبل الدولة والمنطق، نذكّر بالأدوار الوظيفية الخمس للهوية، بداية من التحسين المستمر للسلوك والأمن المجتمعي، والأداء والإنجاز المهني والنمو الاقتصادي والدخل القومي، ووحدة واحتشاد المجتمع خلف مشروعه الوطني وقيادته السياسية، وتعزيز البعث الحضاري الذاتي لدى المجتمع للفعل والإنجاز والتنافس الحضاري، وانتهاء بالصورة الذهنية والقوة الناعمة للدولة.
خمسة عشر عاملا جرت على مدار السنوات الماضية؛ شكلت المعطيات المتداخلة ذات التأثير الكبير على تشكل هوية المنطقة العربية، وما يمكن ان يتغير فيها خلال العام القادم 2019م:
1- تمكن الثورة المضادة من الوقف المؤقت لقطار الربيع العربي وحرمان الشعب من جني ثماره.
2- المزيد من الاستبداد، وتغول الدولة والحصار والقمع، وتصفية كافة أشكال قوة المعارضة وفي مقدمتهم الإسلاميين.
3- هزيمة وانكسار المشروع الإسلامي، ومن تداعيات ذلك خفوت المسحة الدينية للمجتمعات العربية.
4- تجفيف منابع التدين في المنطقة العربية لحساب التحلل من كل ديني وقيمي وإنساني، وبناء حائط صد من الترفيه والتحلل المانع؛ لقطع الطريق على عودة موجات التدين من جديد.
5- نجاح القوى الدولية في الإبقاء على نظام الأسد، فارضة بذلك نموذجا معياريا للشعوب التي يمكن أن تفكر في الثورة والتحرر من نظمها الاستبدادية والتمرد على النظام العالمي، أي رسالة القتل والدمار والتشريد، والعودة إلى ما قبل المربع الأول.
6- تغير مفاهيم العداء لإسرائيل، وفتح أبواب التطبيع العلني.
7- المزيد من التدخل الأجنى في كافة تفاصيل إدارة دول المنطقة، والاعتزاز والتفاخر العلني بالتبعية من قبل أنظمة المنطقة.
8- تدشين مرحلة جديدة.. مرحلة البجاحة السياسية، وقوامها اللاقيم واللاشعوب، والتغيير العكسي للحقائق والكذب اللامحدود على الشعوب، وتقنين دولي لسياسات فرض الأمر الواقع بالقوة العسكرية والاقتصادية.
9- تغيير الهوية العسكرية لشعوب المنطقة وتحويلها إلى محاربة شعوبها لحساب الراعي الإسرائيلي للمنطقة.
10- نمو رصد المنطقة من الدول الفاشلة إلى خمس دول الصومال وليبيا والعراق وسوريا واليمن، كما أن القائمة مرشحة بانضمام خمسة جدد جملة واحدة.
11- التدهور الاقتصادي الحاد لكافة دول المنطقة، بما فيها دول الخليج التي يستنزفها الصراع والحصار البيني.
12- تمخض الأوضاع عن تحالفين كبيرين في المنطقة، الأول لتركيا وإيران وقطر؛ في مواجهة إسرائيل ومن خلفها معظم الدول العربية.
13- التطور النوعي في القدرات القتالية لحماس، وقدرتها على تحقيق ردع نسبي متبادل.
14- بقاء الحوثيين في اليمن، وفرض إراداتهم العسكرية والسياسية على اليمن.
15- وأخيرا، قضية مقتل خاشقجي وما أحدثته من زلزال كبير أطاح بنموذج الإسلام الوهابي، وبالصورة الذهنية والمكانة الروحية للسعودية في العالمين العربي والإسلامي.
منظومة من الأحداث والتفاعلات أنتجت عددا من المعطيات التي يستحيل تفكيكها عن بعضها، خاصة عندما نجدها كلها تتجه في اتجاه واحد؛ يؤشر على أن المنطقة العربية تحولت إلى عدد من الدول الفاشلة وأشباه الفاشلة، والتي سيعاد رسم خرائطها الجغرافية والسياسية وتوظيفها لخدمة القوة الرئيسة في المنطقة إسرائيل.
عبر هذه المعطيات يمكننا استشراف الملامح الأساسية لهوية المنطقة العربية خلال العام 2019.
أولا: من حيث الحالة الدينية
1- سيحدث تراجع نسبي كبير في مستوى التدين العام للمنطقة، والذي كان يغلب عليه التدين الشعائري الطقوسي الاحتفالي التراثي العاطفي العددي الكبير، ولكنه المتقادم المنغلق على ذاته في أطروحاته عن نفسه، وعن التواصل مع العالم، إلى موجة نوعية جديدة من التدين الحقيقي العميق فكريا، عبر حركة تجديد فكري بدت ملامحها جلية في شكل محاولات فردية متناثرة؛ ستشكل تيارا تجديديا كبيرا خلال السنوات الخمس القادة، تحاول الإجابة عن الأسئلة الحقيقية حول دور الدين في الحياة وعلاقة الفرد بربه، وعلاقة الله تعالى بالصراع البشرى الدائر على الأرض، والهوية والثورة والتحرر والوحدة، والدولة التنمية، وإعداد الذات للعبور إلى المستقبل واللحاق بالعالم.
2- بعد السقوط المدوي المفاجئ لنموذج الإسلام السعودي، أصبحت الساحة شاغرة، وتلقى بالكرة في ملعب أصحاب الإسلام الوسطي المعتدل. وأعتقد أن المرشح لملء هذا الفراغ هو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، بالإضافة تيار الفكر التجديدي الوسطي، والمتمردين فكريا على الفكر التنظيمي المنغلق للتنظيمات الإسلامية.
ينتج عن هذا الحراك ظهور وانتشار لقيم وأفكار جديدة ستفرض نفسها بقوة على تشكيل هوية وقوة المنطقة خلال العقد القادم، يأتي في مقدمتها قيم الوعي بالذات والحرية والعدالة والمساواة والتسامح والانفتاح والتواصل والتعايش والمواطنة والابتكار وأدارة التنوع، مما أعده من أهم ثمار صدمة الجولة الأولى من الربيع العربية وانكشاف المشروع الإسلامي.
ثانيا : الحالة الاجتماعية والسياسية
- انحسار وتقزم دور التنظيمات الدينية، بما فيها الإخوان المسلمون، وانحسار المشروع الإسلامي، بما يمثله ذلك من قيم الانكسار والتفكك والتشكيك والتخوين والصراع البيني.
- هرولة كبيرة نحو دراسة وفهم وتمثل النموذج الناجح للدولة المدنية العلمانية والليبرالية السياسية، وما تمثله من قيم الحرية والانفكاك من قيود الدين والمزيد من الانفلات الأخلاقي.
- توجه عقلاني كبير نحو المشروع الوطني للدولة القومية، وما تمثله من قيم الانتماء وحب الوطن وإعلاء العصبية الوطنية والقومية العروبية.
- نمو الوعي والقدرات المجتمعية على إدارة تنوعها، وخلق تيار إصلاحي قوي في مواجهة الاستبداد، وما يمثله ذلك من قيم التواصل والتسامح والتعايش والالتزام المنهجي العلمي في التفكير والعمل، والعمل المؤسسي المنظم.
- المزيد من الضعف والتفكك الخليجي وانقسامه إلى فريقين، الأول قطر وانغلاقها على نفسها، والبحث عن ذاتها والمقومات الخاصة لهويتها ومصادر قوتها، بحثا عن استمرار البقاء والوجود، وعزوفها على المشاركة في الدعم خارج حدودها، وثانيا تحالف دول الحصار المأزومة اقتصاديا وسياسيا، والذي يحاول يحاول البحث عن دور له في التشكيل الجديد لخريطة المنطقة، ويجتهد في تقديم أوراق اعتماده بالمزيد من التآمر على كل ما هو عربي وإسلامي في المنطقة.
ثالثا: مسلسل الحرب على الإرهاب
الاستمرار في عملقة داعش وأخواته؛ ضمانا للاستمرار في الاستثمار في هذه التنظيمات في مناطق متعددة من الإقليم، خاصة تلك التي لا تستجيب سياسيا، كما في ليبيا وشمال سوريا وشرق الفرات وأجزاء متفرقة من العراق، بالإضافة لفرض ملف الإرهاب على كافة موائد العمل السياسي، والاستثمار الكبير في عائداته المتنوعة ثقافيا واقتصاديا وسياسيا وعسكريا.
باختصار، هوية المنطقة العربية ستعيش في 2019 صراعا بين فريقين؛ فريق يعلن انتصاره بمحو هوية المنطقة وتركيعها أمام المشروع الصهيوني وإعلان التبعية له، وفريق آخر يعلن بزوغ مفتتح عهد جديد للمنطقة العربية وملامح مشروع حضاري جديد قادم بقوة، يعبر عن تاريخ وممكنات المنطقة العربية.
هل تشهد 2019 خطوات لاستكمال الثورة؟
الهويات المزيفة.. المفهوم والتداعيات (5)