بضعة أيام بعد الذكرى الثامنة لرحيل ابن علي في 14 كانون الثاني/ يناير، نفذ الاتحاد العام التونسي للشغل أول اضراب عام لموظفي الوظيفة العمومية والقطاع العام (المؤسسات العمومية) في تاريخ تونس، هذا إذا استثنينا الإضراب العام الشهير في 26 كانون الثاني/ يناير 1978، والذي كان إضرابا سياسيا وليس نقابيا فقط، وفي ظل الاستبداد، وقد استشهد خلاله مئات التونسيين. الأسبوع بدأ باستذكار الثورة، وانتهى باختبار آخر لها.
من أهم المناسبات التي احتفت بذكرى الثورة، إضافة للاحتفالات الشعبية، هي محاضرة وحوار قام بهما رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي. بعض المسائل التي تعرض إليها في ندوته وحواره (مع محمد اليوسفي) تحسم ملامح عامة لتوجه النهضة؛ بعضها كان متداولا في الكواليس وأصبح الآن معلنا واضحا:
من أهم المناسبات التي احتفت بذكرى الثورة، إضافة للاحتفالات الشعبية، هي محاضرة وحوار قام بهما رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي
- أهم نقطة؛ إعلان رئيس حركة النهضة بوضوح أنه غير معني بالترشح للرئاسية. هذا الأمر متداول في كواليس السياسة، ودواعي عدم الترشح (كما قال) "المصلحة" و"موازين القوى". وربما الإجابة الأدق هي موقف أو "فيتو" من بعض العواصم الدولية والجار، الإقليمي الأهم.
- النقطة الثانية هو إعلانه بصراحة أيضا أن "الأرجح" هو دعم شخصية من خارجة النهضة، وإجابته عن مبادلته تغزل كمال مرجان (رئيس حزب المبادرة، وزير الخارجية الأخير قبل رحيل ابن علي) بالنهضة؛ تشير إلى اتجاه "بروفايل" المرشح. الدعم "الرسمي" لمرشح متوافق عليه مع المنظومة القديمة (مرجان أو غيره). هنا طبعا كل من راهن بكل ما أوتي من قوة وجهد من خارج "منظومة التوافق" على تلقي دعم النهضة؛ سيكون في التسلل.
- هنا يأتي موضوع المبادرة (القانون) الجديد للعدالة الانتقالية الذي لمح إليه رئيس الحركة (ويتم ماقشة تفاصيله في اطرها المغلقة في هذه المرحلة)، وهي تصفية لمنطق وفلسفة العدالة الانتقالية بمعناها الأصلي كتثبيت وتجذير لتموقع النهضة في منظومة "التوافق" (غير المشروطة بالتوافق مع السبسي ضرورة). المطلوب فقط "الاعتذار". كذلك تأتي التوافقات الأخرى في ما يخص الهيئات الدستورية (بما فيها هيئة الانتخابات والمحكمة الدستورية) التي سيتم حلها بتغيير القانون لانتخابها، أو ترميمها بأغلبيات بسيطة؛ عوض أغلبية الثلثين، كما يفترض القانون الحالي.
النهضة تفكر ضمن فرضية أنها الحزب الأول في 2019، وهي ترتب الأمور ضمن سياق من الحزب الثاني "المفضل" من حزبي المنظومة المفترضين (الشاهد والسبسي)
- نفي ضمني لمطالبة
الشاهد بالاستقالة من رئاسة الحكومة ("ليس لدينا وقت لتشكيل حكومة جديدة") يطرح موضوع قبول النهضة بوجوده على رأس الحزب الجديد. هنا لا يزال هناك غموض، وربما تكون الورقة الوحيدة التي ستسمح للنهضة بالمناورة مع السبسي؛ لأن أهم مشكلة بالنسبة للسبسي وحزب ابنه؛ هي منافسة الحزب الجديد لهم في انتخابات 2019. بمعنى آخر، النهضة تفكر ضمن فرضية أنها الحزب الأول في 2019، وهي ترتب الأمور ضمن سياق من الحزب الثاني "المفضل" من حزبي المنظومة المفترضين (الشاهد والسبسي).
- وفي هذا السياق، يتم طرح ورقة "التنظيم السري" (التي تتهم بها النهضة من قبل "الجبهة الشعبية" التي تمثل اليسار الراديكالي) كنقطة تجاذب في ما يخص إقامة انتخابات 2019، ووفق أي ظروف وشروط. ركز رئيس النهضة على الجبهة الشعبية، لكن ضمنيا هو يوجه كلامه إلى السبسي. وهنا ينفي لأول مرة بشكل رسمي أن هناك تنظيما سريا، بمعنى التوافق على الإجرام (إمكانية ضمنية أن هناك شكلا آخر سريا غير متوافق على الإجرام)، وأبدى استعداده للذهاب للتحقيق كشاهد أو متهم. بمعنى آخر، ليس هناك "صفقة" (بعد) في هذا الموضوع، إثر اللقاء الأخير غير المعلن بين "الشيخين".
في كل الحالات، كانت محاضرة ومواقف رئيس النهضة تعبيرا عن دورها الرئيس في السياق الراهن، لكن أيضا تذكر بأنها الطرف الذي بقي في الحكم أكثر من أي طرف آخر منذ حدوث الثورة، وهي معنية بأهم
الاخفاقات الراهنة، أي الإخفاق الاقتصادي- الاجتماعي، ومن ثم الاحتجاج النقابي على ذلك، وهو احتجاج، رغم تسيس بعض أركانه، يبقى أساسا ممكنا وقائما بسبب وجود ديناميكية احتجاجية قبل الثورة، وبسببها أصلا حصلت ثورة.
كانت محاضرة ومواقف رئيس النهضة تعبيرا عن دورها الرئيس في السياق الراهن، لكن أيضا تذكر بأنها الطرف الذي بقي في الحكم أكثر من أي طرف آخر منذ حدوث الثورة
المهم، نهاية الأسبوع حصل الإضراب العام، وتم في إطار سلمي منظم، وعليه يمكن أن نرى الخلاصات التالية:
- أولا بالنسبة للرئيس السبسي: الأسوأ من أن تبقى لثلاث سنوات رئيسا بصلاحيات إمبراطور، تعيّن وتعزل من تشاء بحصيلة صفرية، هو أن تحاول الآن تزعّم مجالس حماية الثورة، وأن تحاول استحثاث صدام دموي باستحضار ماضي 26 كانون الثاني/ يناير 1978؛ في حاضر يمكن فيه للحكم أن يتعايش مع إضراب، حتى لو كان عاما.
- أما بالنسبة للحكومة، فالأسوأ من ضعف الميزانية هو أن تقول إنه ليس لديك مال، ثم تقدم 1400 مليار كزيادات.
- الأسوأ من فشل التفاوض أن تبقى صامتا منذ شهرين، أي منذ إعلان الإضراب، ثم تحاول في الأسبوع الأخير الهرولة لاتفاق.
- الأسوأ من التسخير هو عدم القدرة على تفعيله.
- الأسوأ من اللاكفاءة هو تلقي التعليمات.
- الأسوأ من الانقلاب عليك وإسقاط الحكومة هو أن تسلم إرادتك التي فوضك على أساسها الشعب (الأحزاب الحاكمة المنتخبة)، وتتحول إلى مجرد ساعي بريد بين الممثل الإقليمي لصندوق النقد واتحاد الشغل.
البلاد تحتاج نقابة غير مثقلة بحسابات السياسة، والبلاد تحتاج أكثر من ذلك؛ حزبا كبيرا يمثل الفئات الاجتماعية التي يعبر عنها اتحاد الشغل، وخطا ديمقراطيا اجتماعيا بتنظيم قوي
- أخيرا بالنسبة للاتحاد الذي وجد نفسه في سياقات معقدة في دوري النقابة والحزب. لم يكن تماما نقابة، ولم يكن تماما حزبا. البلاد تحتاج نقابة غير مثقلة بحسابات السياسة، والبلاد تحتاج أكثر من ذلك؛ حزبا كبيرا يمثل الفئات الاجتماعية التي يعبر عنها
اتحاد الشغل، وخطا ديمقراطيا اجتماعيا بتنظيم قوي، حينها سيصبح من الحتمي على من يمارس الاحتجاج الاجتماعي أن يمارس دور الحكم، وأن يتحمل مسؤولية، ليس فقط النقد والاحتجاج، بل أيضا تقديم البديل، إذ يمكن للاتحاد أن يكون قوة اقتراح، لكن لا يمكن أن يكون البديل.
الآن، ربما انتخابات 2019 (التي يجب أن تجري وفي ظروف حرة ونزيهة أكثر ما أمكن) ستمثل بداية فرز أولي للساحة تفرض وجود عدد أقل من الأحزاب المؤثرة، لكن بأحجام أكبر، ويبدأ صراع حول البرامج وحول السياسات العامة.. هي بداية الخلاص إذا توفرت الظروف المناسبة، وليس الخلاص.