تطبق
إسرائيل المشروع الصهيوني، والذي يقضى في هدفه الأخير بتفريغ
فلسطين كلها بما فيها غزة من سكانها. كانت الفكرة الصهيونية واضحة بهذا المعنى منذ بلورها هيرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897.
ولكن الفكرة الصهيونية انتقلت بالتدريج من مجرد تجميع
اليهود المضطهدين في كيان يهودي واحد، حتى ضمن بقية سكان الأراضي التي يقيمون فيها هذا الكيان، بدليل أن العروض المبكرة لإقامة الكيان كانت بعيدة عن فلسطين ثم ابتكرت فلسطين وتم التمسك بها وابتداع ذرائع فيها لأسباب سياسية لا علاقة لها بالتاريخ أو الدين، حسب زعم الحركة الصهيونية، وبدليل أيضا أن تصريح بلفور 1917 كان يتعهد بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ولم يقل إن فلسطين هي وطنهم القومي، ثم تم تنفيذ المشروع الصهيوني بأهدافه المرحلية وإنزاله على الأرض بالتدريج، من خلال عملية تدليس واسعة وقع فيها العرب وبعض المجتمع الدولي دون دوله العظمى.
فالمشروع في الأصل مشروع سياسي، وتحوله من مجرد إنقاذ اليهود من ظلم الدول الأخرى إلى دولة قومية يهودية؛ تم عبر مراحل استغرقت أكثر من مئة عام تم فيها تطويع المنطقة وانشاء إسرائيل التي تعتبر في المشروع العصب الأرضي ونقطة تجمع اليهود فيها، ولكن قوة إسرائيل تعتمد على أطراف المشروع العالمي الصهيوني.
كذلك، فإن المشروع الصهيوني القائم على التدليس والمزاعم أو الأساطير يقوم على عامل نفسي يعتمد اعتمادا مطلقا على نظرية القوة والبطش والبلطجة، ولذلك لا تستطيع إسرائيل أن تبقى يوما واحدا إذا انفصلت عن إطارها الدولي الداعم لها، خاصة الأمريكي. ويترتب على ذلك عدة نتائج؛ أولها أن إسرائيل لا تخشى الجيوش العربية ما دامت قد طوعها الحكام العرب وخصصوها لحماية هذه الأنظمة، وأقامت إسرائيل معهم تحالفا ضد الشعوب العربية، ولذلك كان البند الأول في صفقة القرن هو القضاء على المقاومة ضد إسرائيل، خاصة المقاومة الفلسطينية، وحرمانها من دعم الشعوب العربية، وإشاعة الشقاء بين مكونات المجتمع الفلسطيني، وفصل المقاومة اللبنانية عن الفلسطينية، وفصل إيران عن الاثنتين، وهذا هو السر في عداء إسرائيل وواشنطن لإيران وحزب الله.
ولذلك، يجب ألاّ تنخدع المقاومة الفلسطينية بسلوكيات بعض الأطراف الرسمية التي لا تملك قرارها.
النتيجة الثانية هي سعي إسرائيل إلى التجذر في المنطقة والاندماج فيها، وإحلال المشروع الصهيوني محل العروبة والإسلام، وذلك عن طريق وسائل متعددة، منها التطبيع الرسمي والاستئناس الشعبي، وكسر شوكة المجتمعات العربية والإسلامية المعادية لإسرائيل.
ولكن الحقيقة هي أن المشروع الصهيوني سرطان لا يمكن أن يتعايش مع الهوية العربية والإسلامية، فعمدت إسرائيل إلى تخليط المؤشرات والأوراق، والخط الأساسي في استراتيجيتها هو التصدي لاستعادة الهوية العربية والإسلامية؛ لأن تمتع المنطقة بهويتها لا يجعل لإسرائيل مقاما فيها.
والرهان الآن هو إما حكم الشعوب التي تستعيد الهوية، وإما حكم التحالف الصهيوني مع الحكام العرب، ولذلك أحبطت إسرائيل كل الثورات العربية وخلطت الأوراق فيها، كما كانت السبب في كل المآسي العربية (غزو العراق للكويت، غزو أمريكا للعراق، إيقاظ مخاوف الأمن القومي الإيراني ضد العراق، الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة، العرب اللاجئون حتى داخل بلادهم، توحش النظم العربية ضد شعوبها بتدبير وأجهزة وتخطيط إسرائيلي خوفا من قيام ثورة عربية كبرى في كل الأرض العربية ضد إسرائيل وحلفائها العرب، واسترداد الهوية العربية والإسلامية).
وما دام المشروع الصهيوني يقوم على نظرية الاسترداد، وفسّر قرار التقسيم على أنه بداية هذه المرحلة، وفصل بين المشروع وآلياته الحقيقية؛ وبين ما يظهره للمجتمع الدولي، فوقع العرب بين واقع المشروع وبين الدعاية للسلام ويقصد به السلام الإسرائيلي. وقد ترتب على نظرية الاسترداد نتائج خطيرة، وهي تبرير كل الجرائم التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين الذين تعتبرهم غزاة ومعتدين، وأنهم حرموا اليهود من حقهم في الأرض لآلاف السنين.
والنتيجة الثانية لنظرية الاسترداد هي أن إسرائيل تعتبر احتلالها وتهويدها لفلسطين استردادا لأرضها بكل الوسائل، وتخدير العرب والعالم بما يسمى مفاوضات السلام وحل الدولتين. ويدخل في هذه الملحمة أوسلو التي ترتبت على الجريمة الكبرى، وهي الصفقة المشبوهة بين مصر وإسرائيل 1979 المعروفة بكامب دايفيد.
والنتيجة الثالثة لنظرية الاسترداد هي الممارسات
العنصرية ضد الفلسطينيين الأعداء، وعندما اتضح هذا الجانب في سلوك إسرائيل، كان العالم العربي لا يزال متماسكا بنتائج الانتصار النفسي والمعنوي وشبه العسكري عام 1973، ولذلك حصل من الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرارين؛ الأول عام 1974 باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين، وكان هذا القرار وقتها انتصارا عربيا وقفت معه دول العالم الثالث، ولكن إسرائيل حولته إلى مقدمة هامة لاستئناس هذه المنظمة والإيقاع بها في مستنقع السلام الإسرائيلي.. أما القرار الثاني، فهو قرار الجمعية العامة للأم المتحدة رقم 3379، في 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 1975، والذي يعتبر الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية والتمييز العنصري. وهذا القرار في الواقع تصوير صحيح للتطهير العرقي الذي أجمع المتخصصون في نظرية الإبادة على أنه أحد أهم أدوات نظرية الاسترداد، وخاصة المؤرخ الإسرائيلي الشهير باببي (Pappe).
ولكن هذا القرار الذي أرّق إسرائيل والولايات المتحدة، والذي سنخصص دراسة تفصيلية عنه، قد صدر بأغلبية 72 صوتا، ضد 35 معترضا و32 ممتنعا عن التصويت, وسعت إسرائيل والولايات المتحدة - في تقديرنا - إلى المضي في مشروع ترتيب الأوضاع العربية على الأرض، حتى قام العراق، بعد استخدامه ضد إيران وتحطيم قدراته، بغزو الكويت، وانحاز عرفات إلى صدام حسين، مما سمح لإسرائيل والولايات المتحدة باستغلال هذا الموقف والسعي في الجمعية العامة إلى إلغاء هذا القرار بالقرار رقم 86 في كانون الأول/ ديسمبر 1991 بعد أن ربطت إسرائيل بين مشاركتها في مؤتمر مدريد للسلام وبين تخلى العرب عن اعتبار الصهيونية حركة عنصرية.
وفي عام 1991، كشف القرار الناسخ لعنصرية الصهيونية عن تدهور أوضاع العالم العربي والتحالف مع فلسطين ضد إسرائيل، فكانت مصر تقود هذا التحالف، فتغيبت عند التصويت على هذا القرار مع البحرين والمغرب وعمان وتونس، والكويت بالطبع، وكان هذا الموقف من الكويت كريما للغاية؛ في ضوء الجرح التي شعرت به جراء تأييد غرفات للغزو العراقي لها.
وقد ظهر تدهور المكانة العربية من أن 88 دولة تبنت مشروع القرار، بينما كانت 25 دولة فقط هي التي تبنت المشروع الذي دمغ الصهيونية بالعنصرية. كذلك، فإن الدول العربية المعارضة لقرار النسخ كانت الجزائر والعراق والأردن وليبيا ولبنان والسودان وسوريا والإمارات واليمن والصومال والسعودية.
أما الدول العربية المتغيبة، فكانت في الواقع مؤيدة لقرار النسخ دون أن تعلن صراحة ذلك، وأظهر ذلك تمزق الموقف العربي الذي استمر وتفاقم الآن، لدرجة أن إسرائيل تفخر بأنها وسط حلفاء عرب مع اتساع رقعة التطبيع النفسي والسياسي انتظارا للتطبيع الدبلوماسي.
وهكذا انتقلت الفكرة الصهيونية من "شعب" يريد تجنب الاضطهاد؛ إلى شعب مضطهد في أوروبا ويبحث عن الحنان في المنطقة العربية، إلى شعب يهبط من جديد ويعترف به قرار التقسيم، إلى شعب يدّعي أنه يعيش وسط الذئاب العربية ويريد الستر والحماية. وقد ثبت أن تلون الحرباء الصهيونية كان مخططا، حتى وصلت الحرباء الصهيونية إلى مرحلة تريد أن تطرد أصحاب البيت وتنفرد بالبيت على أساس أنها تملك كل أدوات القوة، لذلك كان إعلان القدس عاصمة لإسرائيل وتأكيد ذلك على الأرض، وإعلان إسرائيل دولة قومية يهودية على أساس حق تقرير المصير للقومية اليهودية؛ ليكون المرحلة الأخيرة التي تتناقض تماما مع موقف المجتمع الدولي من إسرائيل.
فقد أكدت الوثائق والتصريحات الإسرائيلية وتقارير المنظمات الدولية، وكذلك محكمة راسل بين عامي 2010 و2013، أن إسرائيل تمارس الإبادة الجماعية ضد العرق الفلسطيني، كما أكدت الدراسات الاكاديمية على هذا السلوك الإجرامي الذي يهدف إلى تفريغ الأرض من سكانها، مما يتناقض مع كافة الوثائق الدولية والتصريحات المخادعة الإسرائيلية السابقة.
برنامج تفعيل الدبلوماسية الهجومية ضد المشروع الصهيوني
أولا: ينطلق هذا المشروع من الأساسيات القانونية والسياسية التي اعترفت بها الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، فلا تزال القرارات السياسية والقانونية والقضائية تؤكد على أن إسرائيل قامت على أساس قرار التقسيم، وأنها استخدمت القوة لضم ربع الأراضي الفلسطينية خارج هذا القرار. وتدين هذه القرارات الاحتلال طويل الأجل لبقية الأراضي الفلسطينية، كما تدين السلوك الإجرامي الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وتعتبره جرائم إبادة وانتهاكا واضحا للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان. ويعزز السلوك الإسرائيلي الإجرامي خطاب الكراهية والحقد الذي يبثه كبار المسؤولين الإسرائيليين في وزارة الدفاع والكينيست وغيرهما.
ثانيا: تؤكد المرجعيات السياسية والقانونية على قضية القدس وعدم المساس بها من طرف واحد، كما أن الجمعية العامة للأمم المتحدة وكذلك محكمة العدل الدولية أكدت على هذا الوضع، فصار الموقف الأمريكي وما تبعه من مواقف أخرى مماثلة تحديا صريحا لهذه المرجعيات.
ثالثاً: في الإطار العربي والإسلامي قرارات متكررة تؤكد على خط التسوية السياسية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ودعم المقاومة ضد المحتل وإدانة السلوك الإسرائيلي البربرى ضد الفلسطينيين، ولذلك كان قرار الجامعة العربية باعتبار حماس منظمة إرهابية كاشفا التردي الذي وصلت إليه الجامعة والدول التي تسيطر عليها.
رابعا: ومن هذا المنطلق، يجب التأكيد بالتحرك اللاحق في الداخل والخارج على ما يلي:
1- مقاومة محاولات التطبيع العربي والإسلامي والأفريقي مع إسرائيل، على أساس أن التطبيع يعتبر دعما لخط إسرائيل في الهيمنة على كل فلسطين وحرمان أصحاب الأرض من حقوقهم المشروعة، وعلى أساس أن المشروع الصهيوني مشروع إجرامي وأداة لاغتصاب كل فلسطين، ولذلك فإن المشروع الصهيوني يتجاوز بأدواته الإجرامية كافة أنواع الجرائم المعروفة في القانون الدولي، ومع ذلك يجب الاستفادة من الأطر القضائية الدولية والوطنية التي تدين السلوك الإسرائيلي.
2- التأكيد للشعوب والحكومات على أساسيات الحق الفلسطيني، وانتهاك إسرائيل بقرار التقسيم وقرار عضويتها في الأمم المتحدة، وانتهاكها لكل القرارات الصادرة عنها، وأنها دولة خارجة عن مجتمع الأمم المتحضرة، وهو المصطلح الذي ورد في المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية.
وفي هذا الإطار، يجب مخاطبة الهيئات القضائية في الغرب والدولية في العالم لبيان أن النظام القضائي الإسرائيلي هو جزء من المشروع الصهيوني، وكذلك مخاطبة برلمانات العالم لإيضاح موقف الكينيست الإسرائيلي بالتصريحات والقوانين الداعمة للمشروع الصهيوني، وأن الانتخابات الإسرائيلية ديمقراطية بالقدر الذي يفرز المتطرفين في تنفيذ المشروع وفضح ما يسمى بالديمقراطية الإسرائيلية بمختلف الممارسات، وبيان أن أعمال الإبادة التي تتبناها أجهزة العصابة الصهيونية لا يمكن أن تكون امتدادا للديمقراطيات الغربية، وإنما هي نسخة جديدة من غزو القارة الأمريكية وقتل سكانها وإحلال الولايات المتحدة محلهم. وهذا في ظني جذر التحالف الإسرائيلي الأمريكي.
كما يجب الكشف عن أن إسرائيل ليس مجرد خليفة للاستعمار الغربي أو أنها ظاهرة استعمارية؛ لأن الاستعمار عاد إلى وطنه الأصلي ولم يزعم ضم المستعمرات إلى هذا الوطن، فالصهاينة جاؤوا إلى فلسطين بهدف نهائي، وهو طرد سكانها والحلول محلهم، وأن يكون الطرد بكل وسائل القهر والعنف، لتشكيل كيان يدمر المنطقة العربية.
3- أن الأمة العربية أمة واحدة، وهوية المنطقة عربية إسلامية، وأن السرطان الصهيوني لا يريد التعايش مع هذه الهويات، وإنما يريد أن يقضى عليها، لذلك فإن التطبيع من الحيل الصهيونية لتمكين السرطان من العقل والجسد العربي.
4- المقاومة القانونية والثقافية والإعلامية والسياسية والدبلوماسية والعسكرية والنفسية هى التي تصد السرطان وتجفف منابعه وتبرئة الجسد العربي منه، ولذلك لا يمكن التخلي عن كل صنوف المقاومة ضد السرطان، وهو الوصف الذي أطلقه رئيس وزراء مصر محمود فهمى النقراشي في الأمم المتحدة، عندما كانت مصر تتصدى لقرار التقسيم في تشرين الثاني/ نوفمبر 1947.
5- ضرورة استنهاض المنظمات العربية، وإن فسد إطارها السياسي وخاصة اتحاد المحامين العرب، لتشكيل كتيبة قانونية عربية لتثقيف الشعوب العربية التي أصبحت هدفا مباشراً للمشروع الصهيوني، والتصدي لكل الثقافات المشبوهة والمحاولات المريبة التي تستهدف استغلال الاستئناس الصهيوني للحكومات العربية بمساعدتها في قهر الشعوب العربية وتغييب عقلها وذاكرتها بالإعلام المضلل.
6- ضرورة الاستفادة من الفلسطينيين في أوروبا والولايات المتحدة حتى يكونوا كتيبة للنضال الفلسطيني ضد محاولات الاقتلاع الحالية.
7- ضرورة إفهام جميع الطوائف الفلسطينية في الداخل بأن المطلوب هو إنقاذ فلسطين وهو هدف يتجاوز المصالحة والمخاصمة؛ لأن العرق الفلسطيني والعربي والهوية هي المستهدفة، مما يجعل الصراع السياسي على كراسي السلطة في أرض مهيأة وجاهزة للالتهام الصهيوني مهزلة كبرى، ولا بد من أن تدافع جميع الفصائل عن فلسطين وفق خطة منسقة. فالمقاومة ضد الاحتلال بكل الطرق ومهما كان الضحايا يجب أن يكون في إطار تحرك فلسطيني شامل ومنسق. ولتتذكر السلطة الفلسطينية أن إسرائيل لا تحترم أي شيء يحول دون هدفها في التهام الأرض وإبادة السكان ولا كرامة لأي شخص مهما كانت خدمته لمشروعها، وليعلم الجميع في فلسطين أن استماتة صاحب الأرض هي التي تستنهض الشعوب وتخيف الحكام، وتهز ثقة الصهاينة في قوتهم العسكرية، وهي عماد وجودهم. فإسرائيل فكرة نفسية استقرت بالإلحاح والقهر، ولذلك يمكن أن تتفكك في شهور إذا ما أحست أن الأرض كلها تميد بها، وأن الأرض عطشى لاسترداد العروبة والاسلام في حناياها.