مقالات مختارة

عامٌ جديد في عمر الاستبداد

1300x600

حين أجلس للكتابة في ذكرى ثورة عقد الحالمون حول العالم عليها كثيرا من الآمال فألهمتهم، ثورة كانت تعد بالكثير ورفعت سقف الأحلام في التحرر والتجدد والبدايات الجديدة إلى عنان السماء، ثورة غُدرت بقسوة وسط برك من الدماء، ولما كنت ممن انتظروها وشغلت ذهني وأرشدت قراءاتي طيلة عمري الواعي، فإنني لا أملك إلا أن أشعر بالمرارة والغضب إذ تحل ذكراها، فهي لا تجلب معها فرحة في نفسي، وإنما وجوما إذ أراقب المشهد العام وأتدبر الأحداث والمآلات.


أعجبنا أم لا، فقد استمر النظام وأعاد إنتاج وتجديد نفسه وإن بصورة أكثر ضراوة ودموية، تتناسب طرديا مع حجم التهديد المزلزل الذي شكله يناير والآمال المحبطة. منذ زمن بعيد صرت أخشى الحماسة، وكثيرا ما وجدتها صنو الحماقة، وفي الآونة الأخيرة أضفت إليها خوفا من الكثير من دعاة الموضوعية، فهذه الكلمة في أفواههم تُبتذل و«تتعهر» فتغدو مدعاة للانهزام والتسليم، أمام واقع قبيح يسحق الإنسان وحريته وفرصه في التحقق، بيد أن ذلك لا ينفي أن على كل حالم وعامل في سبيل الحرية أن يلتزم، بل أن يقسر نفسه على رؤية ذلك الواقع على ما هو عليه من قسوة وتشوه وقبح، دون أن يشيح وجهه، باحثا منقبا عن نقاط الضعف، ومن ثمّ سبل التغيير بما يشمله ذلك من ابتكار. الآن، وفي الأيام المقبلة ستطرح أسئلة من عينة ما الذي حدث وكيف وصلنا إلى هذه الحالة المزرية نفسها؟ سنتحدث ونناقش، نتفق على نقطة ونختلف على نقاط، وسنظل نستنبط ونجادل.


بعد ثماني سنوات، لا بد من الاعتراف بأن النظام أثبت أنه الأقوى والأكثر مرونة، عرف كيف يمتص الصدمة ويناور مستغلا ضعف وتشرذم أعدائه. لا بد من الاعتراف بأنه نجح في خلق وبث حالة من اليأس من إمكانية التغيير في قطاعات متسعة من الجمهور، بل الغضب والنقمة من أنفسهم كونهم يوما أو برهة تجرأوا على الحلم. أثبت الخوف أنه مازال قادرا على ابتلاع الأحلام وهزيمة الآمال وزرع العجز والشلل. ثمة كاتبٌ مخضرمٌ أدهشني حين اعتبر تجديد الدولة لدمائها بجيل أصبى (من الضباط طبعا وإن كان لم يشر إلى ذلك)، مكسبا من مكاسب ثورة يناير، ينكرها عليها أعداؤها الألداء والحاقدون، والشاهد أن النظام والدولة بالفعل استبدلا طبقة من الضباط والمسؤولين بأخرى، كالخبز الخارج توا على صاج من الفرن، ممتلئين حيوية وعنفا ونقمة ونهما.

 

ذكرى جديدة ليناير وعامٌ جديد ويبدو النظام أكثر استقرارا، وقد نكّل بمعارضيه ما بين قتيل وسجين وهارب وصامت، وكثيرين يقتسمون يأسا يجمع بين فصائلهم المتناحرة، ومن حسن حظه أن الظرف العالمي يساعد على ذلك أكثر من العقود السابقة، فهو وضعٌ أفضل ما يوصف به هو «السيولة» وعدم الوضوح إزاء انحسار سطوة أمريكا، أو على الأقل التحدي الجدي الذي تشهده أمام تعاظم قوة الصين وتمددها، والشاهد أن الديمقراطية بشكلها الليبرالي الغربي، سواء أكانت فكرة أم ممارسة، تشهد أزمة حقيقية بإفرازها شخصيات شعبوية، جاءت من الهامش ومن خارج نسق الأحزاب التقليدية أو على الأقل رموزها، ومن قبل أنظمة قوية كالصين وروسيا لا تؤمن بها. بعبارة بسيطة، فإنه في ظل صراعات الكبار وأزماتهم ورفض ترامب لفكرة التدخل الخارجي بحجة نشر الديمقراطية وميراث الفشل الغربي في التدخلات في العراق وأفغانستان بالأخص، فثمة اتفاقٌ صامت على أن الأسلم والأوفر تثبيت الأنظمة الحالية، وتركها وشأنها لتتعامل مع شعوبها بالطريقة التي ترى، والتي تلائمهم وفقا للنظرة الاستعلائية لشخص كترامب ( وربما غيره بصورة مضمرة).


إذ أتأمل ما وصلنا إليه والسنين السابقة، فإن يقيني يزداد بأن سببا رئيسيا في ما وصلنا إليه، هو غياب التنظيم الثوري وأيديولوجيا ثورية ضاربة جذورها عميقا في أذهان ووجدان قطاع عريض، ما أدى إلى غياب منهج ثوري واضح وصارم يتم به تناول الأحداث وتحليلها، منهج يساعد على فهم طبيعة السلطة وصراعات أجنحتها الواقعة والمحتملة، منهج ينطلق من صراع الطبقات وتغير مواقعها في ظل واقع متغير. ذلك الافتقار أدى في نهاية المطاف إلى التسرع أحيانا والحماقة أحيانا أخرى، والارتماء في أحضان ممثلين لأذرع النظام أو المخلصين والمسحاء المزيفين، أو الاثنين بالتعاقب. ذكرى جديدة واحتمالاتٌ جديدة أيضا، فآخر جملة في التاريخ لم تكتب بعد، وفي ظل ليل الثورة المضادة لم يزل الحلم ممكنا، ولم تزل إرادة الأمل فعلا مقاوما، ستستمر محاولات تزييف التاريخ وسيستمر دحض الأكاذيب ونشر الوعي ضربا من المقاومة أيضا، ولئن كنا تعلمنا شيئا من يناير وما قبلها من الثورات المغدورة، هو أن أي نظام مهما بدا قويا منيعا، فإنه غير مستعصٍ على السقوط، متى توفر الظرف الموضوعي وإرادة التغيير والاستعداد له.

 

عن صحيفة القدس العربي