هبت رياح التغيير مرة أخرى على العالم العربي من الجزائر إلى السودان، والبقية تأتي. هبت النسائم بعد يأس القانطين من الشارع ومن الناس، وأتت الرياح من حيث لا تحتسب الحكومات والمعارضات والحركات، تماما كما حدث عام 2011.
الشعوب تعرف دائما ماذا تفعل ومتى تفعل، وحدهم السياسيون في غيهم يترددون. فإذا أينعت الثمرة وحان قطافها تقافزوا عليها يتنازعون، حتى تسقط منهم جميعا في يد العسكر أو الأنظمة القديمة.
متى يتعلم السياسيون إذاً، ولا يخذلون الشارع الذي يسلمهم في كل مرة مقاليد الأمور قبل أن يضيعوها؟ في الحقيقة، السياسيون لا يتعلمون
نحن شعب عربي واحد، نصلي في جماعة، ونرقص في جماعة، ونثور في جماعة، وتفشل ثوراتنا في جماعة أيضا. فالنجاح الثوري معدٍ، والفشل فيها معدٍ أيضا. متى يتعلم السياسيون إذاً، ولا يخذلون الشارع الذي يسلمهم في كل مرة مقاليد الأمور قبل أن يضيعوها؟ في الحقيقة، السياسيون لا يتعلمون. هكذا جُبلوا على ذلك، وهكذا يتصرفون.
كل السياسيين لا يأخذون مواقف فاصلة إلا تحت الضغط، إما ضغط الأتباع أو ضغط الخصوم. ولذا، لا ينبغي أن ترتفع الآمال في ردود الفعل تجاه طاقات الغضب الساطعة في أزقة
الجزائر وحواري
السودان، والغضب المكتوم في الصدور في مصر. فدورة الفعل ورد الفعل معروفة، ويمكن التنبؤ بها بسهولة عند استقراء ما حدث في الثورات التي مر بها العالم العربي من المحيط إلى الخليج في السنوات المئة الأخيرة.
الراسخون في علم الاجتماع السياسي كانوا يرددون دائما أن
للثورة موجات صعود وهبوط، فإذا كان الصعود فاستعد للهبوط، والعكس صحيح. وها نحن نودع مرحلة هبوط
الثورة، ونستعد للإقلاع إلى موجة ثورية جديدة تقودها دول فاتها قطار الثورات العربية الأول، فلحقت به في محطته الثانية. وفي المحطة الثانية تستنفر الأنظمة القديمة كل قواها مرة أخرى لتنقذ ما يمكن إنقاذه من نفوذها وسطوتها، وليس لديها مانع من تغيير جلدها ووجهها لتعود في ثوب جديد يناسب المرحلة والعصر. ومهما فعلت قوى الثورة والتغيير، فلن تملك المقومات ذاتها لتقوم بالفعل نفسه، لكن يمكنها فعل شيء آخر..
لا ينبغي أن ترتفع الآمال في ردود الفعل تجاه طاقات الغضب الساطعة في أزقة الجزائر وحواري السودان، والغضب المكتوم في الصدور في مصر. فدورة الفعل ورد الفعل معروفة، ويمكن التنبؤ بها بسهولة عند استقراء ما حدث في الثورات التي مر بها العالم العربي
بوسع هذه القوى أن تتعلم درسا مهما من دروس الماضي، وهو أن تخفض سقف توقعاتها من سياسييها، وتبدأ في الضغط عليهم لتنفيذ خطوات تلبي قليلا من طموح الشوارع الغاضبة. وإذا كان السؤال الأزلي الذي يثار في مثل هذه الظروف هو: من أين نبدأ وما الأولوية؟ فأعتقد أن السنوات الماضية كانت كفيلة بتعليم درس غاية في القسوة؛ مفاده أنه من دون إطار حقوقي عادل لن تكون هناك ثورة ولا سياسة.
وأعواد المشانق المنصوبة في مصر وسط محاكمات هزلية خير دليل على ذلك.
حد أدنى من المطالب الحقوقية؛ التي تجرّم التعذيب، وتمنع القبض العشوائي، وتعزز المحاكمات العادلة والرقابة الدولية على السجون. فلو ضغطت قوى التغيير على سياسييها ورموز حركاتها وأحزابها لتحقيق هذه الأولوية
والإطار الحقوقي ليس صنم عجوة نصنعه في الرخاء ونأكله عند الجوع، كما أنه ليس رخصة نحقق به ما نراه مصالحنا المشروعة ونسحبها من خصومنا بذرائع شتى، وإنما هي منظومة طورتها البشرية في العقود الأخيرة، لتستطيع أن تحقق الحد الأدنى من التعايش وسط أزيز رصاص الحروب ومشانق الديكتاتوريات.. هي منظمات ومهن وباحثون ومبادئ عامة وخاصة.. قد لا يوافق بعضها هوانا الشعبي والسياسي وبعض تفسيراتنا للنصوص الدينية، لكن ما يترتب على غيابها من مظالم يفوق ما نتحفظ عليه.
في وقت الثورات وساحات الغضب، ليس هناك مجال للعقل والسياسة واللعب الهادئ المعروف في أوقات الرخاء؛ إما حسم تجاه اليمين أو تجاه اليسار. حسنا، فليحدث كل هذا تحت سقف حد أدنى من المطالب الحقوقية؛ التي تجرّم التعذيب، وتمنع القبض العشوائي، وتعزز المحاكمات العادلة والرقابة الدولية على السجون. فلو ضغطت قوى التغيير على سياسييها ورموز حركاتها وأحزابها لتحقيق هذه الأولوية، فقد عبّدت الطريق أمام مستقبل خالٍ من الآلام التي نتجرعها يوميا جراء ثورات لم تنجح في آخر قرن من الزمان. فالأصل في الثورات هو الخلاف والشقاق والعراك، فإن لم يحدث كل هذا في مباراة للشطرنج، سيحدث حتما في حلبة مصارعة ثيران وسط الدماء. "ومكلف الأيام ضد طباعها... متطلب في الماء جذوة نار".