الثور هو
الرئيس، والجرة هي التاج الذي علق رأسه فيه. ذُكر أن غابريل ماركيز تخيّل بقرة في
السدة الرئاسية مرة واحدة، ولم يتخيل أن يحكم الثور شعبا مدة عقود.
تحاول
المظاهرات السودانية والجزائرية المتعاظمة، المتأخرة عن أخواتها العربية، إخراج رأس
الثور الحاكم من الجرّة الذهبية، فعسى أن تنجو هذه المرة من قرني الثور الهائج. ليس
سوى ضحية جزائرية واحدة حتى الآن، بالتدافع وليس بالرصاص أو بالهراوات، فلله الحمد
والمنّة، وللمرحوم الرحمة، ولأهله الصبر والسلوان.
يذهب كثير
من المراقبين العدول التقاة الورعين إلى أن المظاهرات العربية لا أرضاً قطعت ولاظهْراً
أبقت. ويمكن أن نتذكر مظاهرات اليمن الملحمية، ومظاهرات ميدان التحرير المصرية في القاهرة،
ومظاهرات السوريين الاستشهادية. الحكمة تقول: إن الثور لا يواجَه بالثورة، الإصلاح
أفضل.
تقول
حكاية رأس الثور والجرّة: إن المختار، وهو كبير القرية وحكيمها، أشار على أصحاب الثور
العطشان، الذي أدخل رأسه في الجرّة وعلق فيها، بقطع رأس الثور، فبقي الرأس في الجرّة
الثمينة، فما كان منهم إلا أن كسروا الجرة بنصيحته، فخسروا الثور وخسروا الجرة.
أمريكا في تأويلنا هي مختار القرية العالمية.
الحكاية
الشعبية اختارت الثور بطلاً للحكاية؛ لأن الحمار المعروف بالغباء أكرم من الثور
وأصبر منه، فالثور شديد الحمق. وكان للثور مهمات وأعمال كالحراثة، فالخسارة كبيرة،
والأرض ستظل بوراً، وستتعطل الطاحونة التي كان الثور يديرها.
وتنوي السعودية
بمنهج "الرؤية"، والرأس في الجرّة، ترفيه الشعب السعوي باستيراد ثيران إسبانية،
ولا نعرف كيف سترفه بها عن الشعب.. هل تطلق الثيران في الشوارع؟ أم ستدفع بها في
الحلبات، وتستورد مصارعين كما استضافت فنانين عالميين؟ وأجور المصارعين مرتفعة في إسبانيا..
المصارع الإسباني بطل قومي. هنا، أستقطع السياق وأقول: نحن يومياً نرى كوارث
عالمية في السعودية: مجزرة في الحرم لسقوط رافعة، جريمة غبية في القنصلية، اصطدام
سيارة شرطة بسباق خيول في الصحراء! والسبب أن رأس الثور في الجرّة.. الثور ثور حتى
لو لم تكن رأسه في الجرّة.
معظم
الشعب المصري يتحسر على أيام مبارك، ليس حباً فيه، فقد كان ثوراً مستبداً،
والطريقة الوحيدة المعروفة لإخراج رأس الثور من جرّة العسل، هي صندوق الانتخاب،
وهو صندوق ممنوع علينا. هذا ما أقرَّ به الباحث نوح فيلدمان، البروفيسور في هارفرد.
عندما قال: الشعوب العربية ستنتخب الإسلاميين.
يوتيوب
منذ شيوع فضائله (وله رذائل كثيرة قاتلة)، علّم الناس كثيراً من الشؤون، مثل إخراج
مفتاح عالق في القفل، وأفضل طريقة لفتح غطاءعلبة معدنية بالماءالساخن. وكان المنصف
المرزوقي ينصح بتجنب حشر الثور العربي في الجرّة، وقد خسرنا ثور ليبيا، وكانت له
فضائل، إذ كان صنيعة نفسه، وليس مثل حفتر. وتجهز المخابرات الغربية والعالمية حفتراً
سودانياً جديداً
اسمه صلاح قوش. يمكن للإعلام العالمي وصوره خلق عجول مقدسة. خذ
مثال القمة العربية الأوروبية في شرم الشيخ.. السجاد الأحمر له مفعول سحر على محبي الثيران.
ويجتمع
جنرالات الجزائر لإعلان موت ثور الجزائر المقدس. عبد الفتاح السيسي متربص بالجنرالات
المصريين، أما
في الجزائر، فالجنرالات يدركون أن رمزية العجل المعبود قد اجتمعت في
رجل شيخ في أرذل العمر، وهم متحاشدون وراضون به ما دامت السلطة الحقيقية في
أيديهم. وقد انتهت هذه المرحلة، وهم على أعتاب صراع جديد.
كثيرون
يظنون أن التخلص من الأسد سينهي مرحلة، لاستقطاب الرمزية السياسية والدينية في
شخصه وأسرته.. تقول الوقائع إن الإعلام الروسي والعالمي يمك نأن يصنع من سهيل
النمر عجلاً، لا يقلّ قداسة ورمزية عن الأسد. الأغلب أن عبيد الأسد سيعبدون العجل
الجديد. عادة كل تغيير يأتي بالهدايا، وأحياناً بالنقم.
رأس الثور العربي عالق في الجرّة، والرأس يتورم..
في العامية نقول: كبر رأسه، كدليل على التضخيم السياسي والرمزي.
تزعم دراسات
فرويد، وجيمس فريزر من قبله، بأن قدسية الثور جاءت من شَبَه قرنه بالهلال المضيء
والمشعّ في السماء. الإعلام العربي يشبّه الزعيم بالقمر، ويصفه بالجذّاب والوسيم،
حتى لو كان مقعداً على كرسي. بينما تقول عقائد الهند وتأويلاتها إن الهنود عبدوا
البقرة، وليس الثور، من أجل اللبن ولأسباب أخرى أسطورية، مثل اختفاء الإله شيفا في
جسد بقرة.
وتقول
الأبحاث التاريخية والسرديات: إن بني إسرائيل بعد أن خلّصهم ربهم من فرعون ووصلوا إلى
البرّ الثاني من البحر الأحمر، على أحسن التقديرات والتفسيرات، وجدوا قوماً يعبدون
العجل، فطلبوا من خليفة موسى، أخيه هارون عليهما السلام، أن يجعل لهم إلهاً،
فطرحوا حليّهم وذهبهم، واتخذوا العجل إلهاً، فجمعوا بين عبادتي الطوطم والذهب.
تخفق الأبحاث
المعاصرة التي قال بها فريزر وفرويد وروبرتسون ستيفنسون، في تفسير التحريم
الإسلامي، بالقول:
إن تحريم
أكل الحيوان هو من أجل قدسيته والحفاظ عليه. هذا تعليل فاسد، فتحريم الخنزير، وهو
نادر في الجزيرة العربية، جاء لدنسه وليس لقدسيته، ولم يكن الخنزير مقدساً يوماً. ويقول
المنطق التعليلي بأن يقتصد التشريع القرآني في الماء، لا أن يحض على الغسل والوضوء
خمس مرات في اليوم! كان جيمس فريرز يقول: الباحث كالحرباء، يغير كل يوم تحليلاته،
فهو باحث عن الحقيقة.
إن الثورات
غير حميدة، والإصلاح أفضل، وإن الثيران الحاكمة في البلاد العربية مستوردة من
الغرب الذي استأنس الحيوانات ودجّنها، كما فعل بالثيران العربية الحاكمة، وهي
ثيران معلوفة في مدارس الغرب العسكرية. وإن الغرب يستمتع بالعنف والحلبات، فقد جعل
البلاد العربية والإسلامية كلها حلبة، فيها ثور كبير وطبقة من الثيران التابعة
العالقة في الجِرار، وجزء من الشعب خائف من التغيير، غير أن الشعوب تحاول، وتأمل
في أنها لو غيّرتْ الثور الكبير، فقد تغيّر النظام كله. الثورة الوحيدة التي غيّرت
النظام كله هي الثورة الإيرانية؛ لأنها نصبتْ المقاصل، واستبدلت طبقة بطبقة،
وثيراناً بثيران.
ثمة
خلاصتان..
الأولى: في
بلاد الإغريق، المصدر الثقافي والديني والتاريخي لأوروبا وأمريكا، يقول فرويد إنه كانت
تسود في القديم فكرة أن قتل الثور جريمة، وفي العيد الأثيني للبوفونات، كانت تقام بعد
التضحية محكمة شكلية يخضع فيها جميع المشاركين للاستجواب، ثم يقرّ الرأي أخيراً على
أن تتحمل السكين ذنب جريمة القتل، فتلقي المحكمة به في البحر. وهو ما رأيناه في
سوريا؛ بإتلاف اداة الجريمة وهي السلاح الكيماوي، الذي حُمّل جريمة قتل الشعب السوري،
والسعودية التي تماطل أوروبا في بيعها الأسلحة.
الثانية:
هي أن الرومان كانوا يحبون العنف، وجعلوا منه رياضة، وقد ورث أحفادهم الحب منهم،
وهم على آثارهم مقتدون.