في المنطقة اليوم مشهدان متقابلان: أما الأول فمشهد القمة العربية الثلاثين المنعقد بتونس والمشهد الثاني هو مشهد ملايين الجزائريين في الساحات والشوارع. المشهدان هما عنوانا المرحلة الجديدة بلا منازع، حيث يعبر الأول عن الواقع الرسمي بمؤسساته وقياداته التي تعكس النظام السياسي الحاكم في المنطقة وفعله السلطوي، أما الثاني فترجمة لإرادة الشارع العربي الطامح للحرية والكرامة والاستقلال والنداء بضرورة القطع من المنظومات الاستبدادية القامعة.
خطاب القمة العربية
لا نقصد به البيان الختامي للقمة الذي يكاد يعتبر نسخة محيّنة عن بقية البيانات السابقة التي يعرفها الشارع العربي عن ظهر قلب، والتي لا تكاد تخرج عن التنديد والشجب والتعبير عن القلق. فقد كانت القمم العربية منذ نشأة الجامعة عبارة عن ملتقى شكلي يجمع الحكام العرب لإلقاء الخطب والقرارات دون أن تتجاوز قيمة هذه البيانات في قدرتها على الفعل عتبة قاعة انعقاد القمة نفسها. بل نقصد بخطاب القمة الرسائل التي وصلت للعالم من جهة أولى وللشارع العربي خاصة من جهة ثانية.
عبر الرئيس الأمريكي الحالي ترامب عن قيمة الحكام العرب في جملة من التصريحات والتغريدات التي اختصرها بقوله: إن العرب ـ ويقصد الحكام العرب طبعا ـ سيكتفون دائما بالتنديد والشجب دون القدرة على الفعل أو رد الفعل، وقد كان كلامه هذا في سياق إجابته عن سؤال يتعلق بردود الفعل العربية حول اعتراف الولايات المتحدة بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان المحتلة.
الجامعة العربية ليست في الحقيقة إلا الممثل الرسمي والناطق الحصري باسم النظام الاستبدادي الحاكم وهيئاته القمعية.
هذا الموقف الأمريكي الرسمي يلخص بوضوح كبير، عُرف به الرجل وتصريحاته، حال النظام الرسمي العربي الذي صار مثيرا للشفقة على الصعيد العالمي. لكن من جهة أخرى لا تقتصر أزمة الفعل السياسي الرسمي على هذا العجز الكبير بقدر ما تنعكس في تحول المنظمات الرسمية العربية إلى فضاء للصراعات البينيّة بين الأنظمة نفسها، بعد أن تحولت أدوات العمل العربي المشترك إلى أسلحة لتصفية الحسابات السياسية. أي أن المنظمات الرسمية ليست فقط عاجزة عن تحقيق ما أُسست لأجله بل إنها صارت هي نفسها أداة لنشر الفوضى ومنع العمل المشترك.
ألم يتمّ غزو العراق وتدميره واحتلاله من بوابة جامعة الدول العربية؟ ألم يكن مجلس التعاون الخليجي شاهد زور على حصار قطر ومحاولة احتلالها وتجويع شعبها؟ ألم تُدمّر سوريا واليمن وليبيا وسط صمت المؤسسات العربية وعجزها؟
الجامعة العربية ليست في الحقيقة إلا الممثل الرسمي والناطق الحصري باسم النظام الاستبدادي الحاكم وهيئاته القمعية. إنها في عمقها أداة رسمية لترسيخ قدم الاستبداد ضد إرادة الشعوب وضد قضايا الأمة وحقها في التحرر والانعتاق وهي تعيش اليوم آخر أطوارها. إن الثورات الشعبية التي انطلقت من
تونس لم تكن تهدف فقط إلى إزالة الأنظمة القمعية الجاثمة على صدر الشعوب بل كانت أيضا تستهدف وسائل هذه الأنظمة وآلياتها المشتركة التي تعبر في الحقيقة على الاستبداد المشترك لا عن العمل العربي المشترك.
رسالة القمة العربية هي أن الاستبداد العربي لم ولن يتغير وأنه ثابت في مقولاته وردود أفعاله أمام القضايا المصيرية للأمة رغم كل المذابح التي حدثت ورغم كل التضحيات والدماء التي أرهقت وهو ما يجعل التعويل على إمكانية تغير هذا النظام ضربا من العبث وإنكار الواقع.
خطاب الجماهير أو رسالة الجزائر
في المقابل لم تتوقف انتفاضة الجزائر المباركة التي حققت في الساعات الأخيرة أول نتائجها باستقالة رئيس الجمهورية وإعلان شغور منصب الرئاسة، فرسالة الجزائر هي في عمقها ليست فقط رسالة الشارع الجزائري بل هي رسالة الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج. انتفاضة الجزائر تأكيدٌ على أن ربيع الشعوب لم ينقض وأن الموجة الثانية للثورات الشعبية ليست إلا في بدايتها منذ انتفاضة السودان وصولا إلى انتفاضة الجزائر بشكل ينسف كل أدبيات القوى المعادية للثورات والتي هللت لموت الربيع العربي وبالغت في القول بأن ثورات الشعوب قد انتهت إلى غير رجعة.
من المبكر ومن الصعب التنبؤ بمخارج الحراك الجزائري أو السوداني لأن قرار مصير كلا الثورتين لن تحسمه الفواعل الداخلية فقط، بل إن للنظام الدولي المتحكم في مصير المنطقة عبر وكلائه في الداخل كلمته
رسالة الجزائر تذكير بخصائص الربيع وخصائص الشعوب العربية في سلمية مطالبها ورفضها للعنف بكل أشكاله، بل إنها حققت هدفا هو في نظرنا أسمى أهدافها بأن جعلت العالم كله يبصر على التلفاز مستوى التحضر والرقي والوعي في
الحراك الجزائري. لم تسقط في الجزائر قارورة واحدة ولم تقطع فيها شجرة ولا أصيب فيها طفل أو شيخ أو شاب بل كانت أمواج المتظاهرين بالملايين أشد حرصا على سلامة الناس وسلامة الممتلكات من قوات النظام نفسها.
من جهة أخرى لم تنفصل المطالب الجزائرية عن بقية المطالب خلال ثورات الربيع، إذ كانت الشعارات تقريبا نفسها خاصة منها الشعار الأبرز وهو أن "الشعب يريد إسقاط النظام" أو المناداة بمحاسبة الفاسدين ورجال العصابات الذين دمروا اقتصاد الجزائر وتسببوا في حالة الاحتقان الاجتماعي الذي تعاني منه.
بهذه الخصائص لا يمكن أن نفصل انتفاضة الجزائر عن سياق الربيع العربي رغم أن كثيرا من الأصوات تتعالى بالقول: إن التجربة الجزائرية تجربة منفصلة عن سياقها في إنكار تام لالتحام المطالب الجزائرية وشعاراتها والسياق الذي أنتجها ببقية الثورات السابقة. فرغم القمع الدموي الذي جوبهت به تجارب سوريا ومصر وليبيا واليمن والتي كان يُظن أنها ستكون كافية لردع بقية الشعوب عن الانتفاض في وجه الحاكم إلا أن الثورة الجزائرية وقبلها السودانية قد كذبت آمالهم.
الواقع والمآلات
قد يكون من المبكر ومن الصعب التنبؤ بمخارج الحراك الجزائري أو السوداني لأن قرار مصير كلا الثورتين لن تحسمه الفواعل الداخلية فقط، بل إن للنظام الدولي المتحكم في مصير المنطقة عبر وكلائه في الداخل كلمته في حسم المسار الثوري الجديد. لكن مهما يكن من الأمر فإن الحراك الشعبي المتواصل يثبت بشكل لا يدع مجالا للشك أن معركة الشعوب مع الأنظمة الاستبدادية لن تتوقف حتى تحقق أهدافها وأن كل محاولات التشكيك والالتفاف عليها ليست إلا مضيعة للوقت وهدرا للدماء والممتلكات.
قد يكون للنظام الرسمي العربي رأي آخر ومخارج أخرى لقمع التحركات الشعبية الجديدة لكنها لن تكون إلا تأكيدا لرفض هذا النظام كل حلول التغيير السلمية الممكنة وإمعانا في سدّ أفق التغيير التي تطالب بها الشعوب. تعيش الأنظمة الرسمية اليوم أعمق أزماتها على الإطلاق والتي تتجلي في إنكار الواقع الجديد ومحاولة إعادة الزمن إلى الوراء قسرا من أجل منع كل الحلول والبدائل السلمية التي تطرحها الشعوب. فحتى في تونس مكان انعقاد القمة لم تخف النخب التونسية والشارع التونسي استهزاءه بالهدر الكبير الذي تعبر عنه هذه المناسبات الرسمية التي صارت أضحوكة شعبية ومناسبة للفكاهة والتندر.