على التلفزيون الجزائري الرسمي، وفي نشرة الثامنة ليلا، كان المشهد يومها كالتالي: يدخل الرئيس الشاذلي بن جديد لإحدى غرف القصر الرئاسي، حيث كان في انتظاره أعضاء المجلس الدستوري ليسلم عليهم الواحد تلو الآخر.
بين استقالة ابن جديد وبوتفليقة
يتحدث الشاذلي بن جديد: بعد تفكير في حل أحفظ من خلاله وحدة الأمة والأمن والاستقرار في هذه البلاد، قررت، وأردت أن أعلن هذا القرار أمامكم جميعا أعضاء المجلس ورئيس المجلس، استقالتي من رئاسة الجمهورية ابتداء من هذا اليوم.
سلم ابن جديد مجددا على الحاضرين وغادر.
أخلفت الجزائر يومها الموعد مع تجربة ديمقراطية كانت سباقة إليها في كل ديكتاتوريات الوطن العربي، ودخلت في أتون حرب أهلية دامت عشر سنوات عاثت فيها العصابات بمختلف انتماءاتها الرسمية وغير الرسمية فسادا. وفي 13 تموز (يوليو) 1999 اُستُدعِيَّ عبد العزيز بوتفليقة لتحمل مسؤولية "إعادة الاستقرار" على جثث مئتي ألف جزائري فُرِض على ذويهم القبول بالصمت قربانا للأمان.
الثاني من نيسان (أبريل) 2019: مشهد القصر الرئاسي، الرئيس يقدم استقالته، كلاكيت مرة ثانية.
على التلفزيون الجزائري الرسمي، وفي موعد متأخر من الليل ظهر عبد العزيز بوتفليقة منهكا على كرسيه المتحرك، وعلى جنبيه رئيسا مجلس الأمة والمجلس الدستوري. لم يقو بوتفليقة على تسليم رسالة "الاستقالة" إلا بصعوبة بالغة. كما لم يتمكن من توجيه ولو كلمة واحدة إلى الشعب وهو الصائم، مضطرا، عن الحديث منذ سنوات تناوبت عليه خلالها الجلطات، فقضاها سعيا بين قصر المرادية ومستشفيات جنيف وباريس.
في كلا المشهدين، كان الجيش اللاعب الخفي/الظاهر في تعيين وإقالة الرؤساء. لكن أحداثا مفصلية حدثت بين المشهدين، إن على المستوى المحلي أو الدولي جعلت مخرجهما يتبنى مدرستين "فنيتين" مختلفتين.
اختاره الجيش
في العام 1979، استقدم الجيش أحد أبنائه القابعين في الظل لتولي رئاسة الجمهورية الجزائرية ضدا على التخمينات التي كانت تسير في اتجاه تسليم العهدة لآخرين كان عبد العزيز بوتفليقة واحدا منهم.
ظهر الشاذلي بن جديد يومها على الساحة حاكما باسم الجيش حتى العام 1988، حيث اندلع ما سمي وقتها بريبع الجزائر على شكل مظاهرات شبابية عارمة، احتجاجا على سياسات التقشف الحكومي، وكان الرد وحشيا من حراس المعبد العسكريين. انتهى الأمر بالجزائر، رغم ذلك، إلى تجربة ديمقراطية وليدة شكلت الاستثناء في جغرافيا الاستبداد العربي. لم يكن الجيش ليتقبل مآلات الوضع الجديد المهدد لمصالحه ولسيطرته على دواليب الدولة فقرر إجهاض المسلسل الانتخابي، قبل انتهائه، آمرا الشاذلي بن جديد بترك السفينة عنوة ليغرقها الجنرالات بعد ذلك في أتون حرب أهلية لم يسلم من آلامها بيت جزائري.
المؤسف أن يصبح "السيسي" نموذجا يستنبت كالفطر في كل الأقطار، وأن تصل نبتته الخبيثة لأرض الأحرار في بلد ثورة المليون شهيد.
بين بوتفليقة والجيش
التوجس بين الرجل وجنرالات الجيش ظل مسيطرا طوال عهده الأربعة في السر والعلن، وكانت تباشير المواجهة واضحة من اليوم الأول حين تحدى بوتفليقة الجنرالات علنا في تصريح للتلفزيون السويسري في العام 1999 قائلا: "أنا الجزائر. أنا أجسد الشعب الجزائري. أبلغوا الجنرالات أن يلتهموني إن كانوا قادرين على ذلك".
طوال سنوات حكمه الأولى لم يتوان عبد العزيز بوتفليقة في تقليم أظافر الجيش باستبعاد وجوه مرحلة العشرية السوداء البارزين، ومحاولة تكريس رجاله قادة للجيش الشعبي، وعلى رأسهم كان أحمد قايد صالح، رئيس الأركان الحالي. وقبل أشهر فقط، تعرض عدد من قادة الجيش للتنحية، بل الاستماع إليهم في قضايا فساد وإثراء غير مشروع، وهو ما فسر على أنه تهيئة في طريق إقرار العهدة الرئاسية للرئيس. كما توالت الرسائل من قصر المرادية في خطابات، صار ينظر إليها اليوم على أنها منسوبة للرئيس، تدعو الجميع للاصطفاف وراءه على اعتبار أن "عهد إمساك العصا من الوسط قد ولى"، وأن "عهد المراحل الانتقالية في الجزائر" ولى معه، وهو ما فسره البعض وقتها بأنه تحذير من انقلاب يقوده الجيش، "استجابة" لدعوات بدأت تطفو على السطح وقتها تدعوه للتدخل ضد "عصابة" الرئيس.
الأكيد أن الانقلاب أو فرض الاستقالة على الرئيس بوتفليقة ما عاد ممكنا بالطرق التقليدية
الخلاف اللائكي الإسلامي يطل برأسه في ربيع الجزائر