الثورة فعل استثنائي يحدث كل بضعة عقود في الدول غير
الديمقراطية، وقد لا يحدث أصلا. أما
الانتخابات، فهي ممارسة دورية حرة ونزيهة في الدول الديمقراطية، ومسرحية هزلية في الدول التي تحكمها أنظمة استبدادية. لو كانت هناك انتخابات حرة وتداول سلطة، لما اشتعلت الثورة أصلا. لذا، فإن الحديث عن أجواء انتخابات في ظل الثورات هو عبث، أو حيلة ماكرة للالتفاف على الثورة وأهدافها.
ليس لدينا في العالم العربي تجربة انتخابات مكتملة بعد أي ثورة إلا وانتهت بانقلاب، بدءا بحكومة الصادق المهدي بعد أن تسلم السلطة من المشير عبد الرحمن سوار الذهب عام 1986، وانقلاب البشير والترابي عام 1989، وانتهاء بانقلاب تموز/ يوليو 2013 في
مصر، ومرورا بإلغاء الانتخابات الجزائرية عام 1992.
العيب ليس في الانتخابات، ولكن في توقيت وإجراء الانتخابات. فهذا الأخيرة ليست سوى وسيلة لتنافس البرامج السياسية في إدارة البلاد، وليست لصياغة حاضر ومستقبل وهوية الشعوب في ظل ظرف استثنائي وفوران شعبي. وغالبا ما يصر الطرف الأكثر جاهزية، من حيث الانتشار والحشد، على إجراء الانتخابات فورا لأنها طريق سريع وشرعي نحو السلطة. أما الدوافع لهذا الأمر، فمنها ما هو حسن النية، مثل قطع الطريق على الفوضى وتحقيق استقرار سياسي واقتصادي سريع، ومنها ما هو سيئ النية مدفوع ببسط النفوذ وقطف الثمار سريعا. وإذا كانت الثورة هي هدم للأسس السياسية التي قام عليها النظام السياسي، فلا يعقل أن يتم البناء على أساس مهدوم؛ لأنه سينهار مع أي هزة، فضلا عن أن الانتخابات تعزز الاستقطاب الاجتماعي والسياسي المصاحب للثورات، مما يفرغ العملية التنافسية النزيهة من جوهرها.
البديل هو أن تتم إدارة الفترات الانتقالية عن طريق مدنيين ممثلين للثورة، وفقا لبرامج ورؤية واضحة على أساس ثلاث قواعد رئيسية؛ أولها هو تحجيم دور العسكريين عبر آلية رقابة شعبية، وصياغة معادلة متوازنة للعلاقات المدنية العسكرية في المرحلة الانتقالية تبتعد عن الانتقام. وثانيا، تحديد رؤية اقتصادية وسياسية وأمنية للفترة الانتقالية والاستعانة بتكنوقراط مشهود لهم بالنزاهة. وثالثا، هو بدء صياغة عقد جديد للعدالة الانتقالية يكون للمجتمع المدني فيه الدور الأكبر. بعد ذلك، يمكن أن تكون هناك انتخابات وتنافس رضائي بين كل الأطراف، بعد أن يكون الفرز قد تم على أساس سياسي برامجي، وليس على أساس فرز هوياتي أيديولوجي.
وهذه ليست مجرد أفكار نظرية، بقدر ما هو حصيلة تجارب في عدة دول أفريقية خلال العقود الماضية. فمسار العدالة الانتقالية حقق تقدما مهما في بلدان، مثل غانا مع تجربة لجان الحقيقة، وفي تونس مع هيئة الحقيقة والكرامة، وفي جنوب أفريقيا مع لجنة الحقيقة والمصالحة. أما الدول التي لجأت للقضاء المحلي بعد الثورة مدفوعة بشهوة الانتقام، فلم تحصد من التجربة سوى أن تم تعليق الثوار على المشانق في نهاية الأمر، كما يحدث في مصر الآن، وحدث الأمر نفسه خلال ثورات منتصف القرن العشرين في العالم العربي، في العراق وسوريا ومصر وغيرها.
أما بالنسبة لطريقة الإدارة والعلاقات المدنية العسكرية، فلا أتصور أن بلدانا عربية إفريقية مثل السودان والجزائر أقل من بلدان مثل روندا التي مرت بحرب أهلية، أو إثيوبيا التي تداوي جراح الماضي وتغلق ملفات النزاعات، أو جنوب أفريقيا التي شهدت صراعا مسلحا ونظام فصل عصري.
ستظل هناك تحديات في التطبيق ما بين ضغوط الداخل المشتعل والخارج المتآمر، لكن كل التجارب تقول إن نخبة لديها الحد الأدنى من الوعي للتعامل مع هذا التحديات قادرة على تجاوزها بسهولة. المهم أن تؤمن بالديمقراطية بمفهومها الشامل وليس الانتقائي، وأن يكون الشعب شريكا معها؛ ليس فقط عبر المظاهرات والاعتصامات، ولكن عبر المجتمع المدني، وأن تضع حقوق الإنسان كأولوية في أجندتها.