في تموز/ يوليو 2013، وتحديدا بعد الانقلاب العسكري، بدأت مواجهات بين أنصار الشرعية على مختلف انتماءاتهم؛ والشرطة
المصرية والشرطة العسكرية على استحياء. ولأول مرة نواجه نوعا مختلفا من مدرعات الشرطة، محصنة بشكل عجيب، وتطلق رصاصا يفجر الرؤوس، بعد أن اعتدنا على تلك المدرعات التي كان يعتليها ضابط أو مجند يطلق القنابل المسيلة للدموع أو الرصاص المطاطي أو حتى الخرطوش، والتي كان الشباب يواجهونا بكل شجاعة، حتى أنهم باتوا يتسلقونها دون خوف أو تراجع، لاختلاف الهدف، فالشاب يدافع عن كرامته وحرية وطنه، والضابط يدافع عن مرتبه وكرسي غيره.
لكن المفاجأة أن هذه المدرعات التي كانت توجه في القيادة وإطلاق النار من الداخل وعبر كاميرات وبدقة تصويب 100 في المئة؛ كانت صناعة فرنسية دفعت الإمارات ثمنها وأهدتها للداخلية المصرية قبل الانقلاب، وهو ما يكشف الإعداد المسبق للانقلاب، وهو ما يعني بالنتيجة معرفة تلك الدول بنية العسكر في الانقلاب على شرعية الشعب ورغبته في الاستقلال عن الهيمنة الغربية. فدور أمراء الإمارات هنا هو المحافظة على عبودية الشعوب لسادتهم في الغرب، حتى لا ينكشفوا وحدهم كعبيد رغم أموالهم ونفطهم، ودور
فرنسا أن تحافظ هي وغيرها على سيادتها على تلك الشعوب.
كنا في التحرير، وقبل تنحي، مبارك نتدارس
الثورة الفرنسية كإحدى أهم الثورات الشعبية في العالم، والتي أسست للديمقراطية وحق الشعب في محاسبة حكامه، لا سيما بعد أن تطورت الثورة عبر عقود ليضع الفلاسفة بصماتهم في العلاقة بين الحاكم والشعب، والتي تجلت في نظرية العقد الاجتماعي للفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو. ولطالما حلمنا بإرساء قواعد الجمهورية الحقيقية، بعد أن سرق العسكر في 1952 الحلم وأسسوا لجمهورية العسكر، إثر انقلابهم على الملك، فسرقوا البلاد من الشعب ليأسسوا ملكية جديدة يورّث بعضهم بعض حكمها، بعد أن خلعوا الزي العسكري للإمعان في الخداع، فكان الثوار في التحرير يحلمون بجمهورية حقيقية كتلك التي تأسست في فرنسا، هكذا كنا ننظر لفرنسا.
أما فرنسا فنظرت لنا من زاوية أخرى، فلم تصدر لنا الثورة والحرية، ولم تعلمنا فلسفات الحرية والمساواة والعدالة التي بشرت بها تلك الثورة العظيمة التي غيرت وجه العالم، حتى مع آثارها الجانبية، بل أرسلت لنا بمدرعات وأسلحة تفتك بتلك الرؤوس التي تحوي عقولا آمنت بالحرية والديمقراطية، واتخذت من فرنسا نموذجا يحتذى.
في تقرير للفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، ننشر منذ أيام، تم رصد الدور الفرنسي لتعزيز قوة النظام المصري في قمع المعارضين والناشطين الحقوقيين والسياسيين. التقرير يؤكد ذلك الدور في تعزيز دكتاتورية النظام وتقوية آليات قوات الأمن لقمع أي حراك ديمقراطي في البلاد منذ عام 2013 ، بالتعاون في إنشاء جهاز أمني قمعي للغاية يوسع من انتشار انتهاكات حقوق الإنسان، وهو ما ساعد النظام في تقوية قوته العسكرية والأمنية وأجهزته الاستخباراتية، سواء العسكرية أو المدنية، مما تسبب في قمع المعارضة والمجتمع المدني وكل الأصوات المعارضة، باستخدام القوة المميتة ضد المتظاهرين والمعتقلين والتعذيب الممنهج في المعتقلات، وصولا للإعدام خارج نطاق القانون.
لكن الإجراءات القمعية هذه سبقها انتهاك لخصوصية الشعب بأكمله، من خلال سباق تسلح رقمي غير مسبوق، أدى إلى مراقبة كل الأنشطة الرقمية والتكنولوجية والشبكات الاجتماعية والتطفل على البيانات الشخصية ومراقبة الاتصالات الخاصة على المستوى العام والتدقيق على الناشطين الحقوقيين، وهو ما اشتكى منه الحقوقيون إبان زيارة الرئيس الفرنسي ساركوزي والذي أغضب النظام في حينها.
مع ذلك، لم يأبه الرئيس الفرنسي ماكرون الذي يرى في وجود نظام ديكتاتوري على رأس السلطة فائدة كبيرة وبابا للمصالح، تتمثل في المزيد من الابتزاز بأوراق، منها حقوق الإنسان، لبيع الكثير من الأسلحة والتكنولوجيا، وجني مزيد من المال لسد جزء من عجز الموازنة الذي يعانيه، والذي أخرج أصحاب السترات الصفر منذ أشهر في تظاهرات لإسقاط حكومته.
هذه البراجماتية المقيتة تسقط ورقة التوت التي تستر بها فرنسا وغيرها من دول الغرب عورتها ، ولتسقط معها الادعاء بدعم
الديمقراطية في العالم، لكن الشعوب التي آمنت بالديمقراطية لن تقف كثيرا عند تصرفات الأفراد لأنهم زائلون... كلهم زائلون، سواء من انقلبوا على الديمقراطية أو من يقفون وراءهم؛ يرفعون الشعارات في خطبهم ويبيعون آلات القمع في الغرف المغلقة.